فصل: شروط الأئمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.[مصادر ابن الملقن]:

فَمَتَى طلب الطَّالِب حَدِيثا أَو أثرا فِي كتاب الطَّهَارَة مِنْهُ، فَزِعَ إِلَى كتاب الطَّهَارَة من هَذَا التَّأْلِيف، أَو فِي كتاب الصَّلَاة فَزِعَ إِلَى كتاب الصَّلَاة مِنْهُ، وَهَكَذَا أَولا فَأول، عَلَى التَّرْتِيب وَالْوَلَاء، إِلَى آخر الْكتاب- إِن شَاءَ الله تَعَالَى ذَلِكَ وقَدَّره- مُعْزِيًا إِلَى الْأُصُول الْمخْرج مِنْهَا:
فَإِن كَانَ الحَدِيث أَو الْأَثر فِي صحيحي الإِمامين: أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ وَأبي الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج القُشَيْري، أَو أحدِهِما: اكتفيت بعزوه إِلَيْهِمَا، أَو إِلَيْهِ، وَلَا أُعَرِّجُ عَلَى من رَوَاهُ غَيرهمَا من بَاقِي أَصْحَاب الْكتب الستَّة، وَالْمَسَانِيد، والصحاح؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي الإِطالة بذلك- وَإِن كَانَ الْحَافِظ مجد الدَّين عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية اعْتمد ذَلِكَ فِي أَحْكَامه لِأَن الْغَرَض الِاخْتِصَار، وَذَلِكَ عِنْدِي- بِحَمْد الله- من أيسر شَيْء. اللَّهُمَّ إلَّا أَن يكون فِي الحَدِيث زِيَادَة عِنْد غَيرهمَا، وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَى ذَلِكَ، فَأُشْفِعُه بالعزو إِلَيْهِم.
وَإِن لم يكن الحَدِيث فِي وَاحِد من الصَّحِيحَيْنِ، عزوته إِلَى من أخرجه من الْأَئِمَّة: كمالك فِي موطئِهِ، وَالشَّافِعِيّ فِي الْأُم، ومُسْنده الَّذِي جُمع من حَدِيثه، وسنَنه الَّتِي رَوَاهَا الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَنهُ، وسنَنه الَّتِي رَوَاهَا أَبُو عبد الله، مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم عَنهُ، وَأحمد فِي مُسْنده، وَعبد الله بن وهب فِي موطئِهِ، وَأبي دَاوُد فِي سنَنه، وَأبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ فِي جامعه، وَأبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكَبِير المُسَمَّى ب المجتنى، والصَّغِير المُسَمَّى ب الْمُجْتَبَى، وَأبي عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي فِي سنَنه، وَأبي عوَانَة فِي صَحِيحه، وَإِمَام الْأَئِمَّة مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة فِي الْقطعَة الَّتِي وقفتُ عَلَيْهَا من صَحِيحه، وَأبي حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه الْمُسَمَّى ب التقاسيم والأنواع، وَفِي كِتَابه وصف الصَّلَاة بِالسنةِ، وَأبي بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي صَحِيحه وَأبي عبد الله الْحَاكِم فِيمَا استدرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَابْن أبي شيبَة، والحُمَيْدِي، والدَّارِمِي، وأبي دَاوُد الطَّيَالِسي، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، وَأبي يَعْلَى، والبَزَّار، والْحَارث بن أبي أُسَامَة، فِي مسانيدهم، وَابْن الْجَارُود فِي المُنْتَقى، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه، وَأبي بكر الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكَبِير، وانْتَقَد عَلَيْهِ بعض شُيُوخنَا مواضعَ يُمكن الْجَواب عَنْهَا، ومعرفَة السّنَن والْآثَار، وشعب الإِيمان والمعاجم الثَّلَاثَة للطبراني، والْكَبِير سِتُّونَ ألف حديثٍ، كَمَا قَالَه ابْن دحْيَة فِي كتاب الْآيَات الْبَينَات. قَالَ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ: وَقيل: ثَمَانُون ألفا. وَجمع الْقَوْلَيْنِ فِي كِتَابه خَصَائِص أَعْضَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: وعاش مائَة سنة. وَقَالَ صَاحب مُسْند الفردوس: وَيُقَال: إِن الْأَوْسَط ثَلَاثُونَ ألف حَدِيث. والطّهُور لأبي عبيد الْقَاسِم بن سَلَّام، وسنَن اللالكائي، وسنَن أبي عَلّي بن السَّكن، المسمَّى بالسّنَن الصِّحَاح المأثورة.
نَاظرا عَلَى ذَلِك من كتب الصَّحَابَة:
مَا صنَّفه أَبُو نعيم وَأَبُو مُوسَى الأصبهانيان، وَابْن عبد الْبر، وَابْن قَانِع فِي مُعْجَمه، وعبد الْكَرِيم الْجَزرِي فِي كِتَابه أَسد الغابة، وَمَا زَاده الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ من طَبَقَات ابْن سعد وَغَيره، فِي اختصاره للْكتاب الْمَذْكُور وَمَا أهمله.

.وَمن كتب الْأَسْمَاء جرحا وتعديلًا وَغير ذَلِك:

تواريخ البُخَارِيّ، والضُّعَفَاء لَهُ، والضُّعَفَاء للنسائي، والْجرْح وَالتَّعْدِيل لِابْنِ أبي حَاتِم، والضُّعَفَاء للعقيلي، والْكَامِل لِابْنِ عدي، والضُّعَفَاء لِابْنِ حبَان، والثِّقَات لَهُ، والثِّقَات لِابْنِ شاهين، والمُخْتَلَف فيهم لَهُ، والضُّعَفَاء لأبي الْعَرَب، والضُّعَفَاء لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، وَمَا جمعه الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه الْمُسَمَّى ب الْمُغنِي فِي الضُّعَفَاء، وَمَا ذيَّل عَلَيْهِ، وَمَا جمعه آخرا وسَمَّاه ب ميزَان الِاعْتِدَال فِي نقد الرِّجَال، وَهُوَ من أنفس كتبه ورجال الصَّحِيحَيْنِ لِابْنِ طَاهِر، غير مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، والكُنى للنسائي، والكُنى للدولابي، والكُنى لِلْحَافِظِ أبي أَحْمد الْحَاكِم، وَهُوَ أكبرها.
والْمدْخل إِلَى الصَّحِيحَيْنِ للْحَاكِم أبي عبد الله، والتذهيب لِلْحَافِظِ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ، وَأَصله المسمَّى ب تَهْذِيب الْكَمَال لِلْحَافِظِ جمال الدَّين المزيِّ، وَمَا نُقد عَلَيْهِ. والكمال، والكاشف، والذبّ عَن الثِّقَات، ومن تُكُلِّمَ فِيهِ وَهُوَ موثق لِلْحَافِظِ أبي عبد الله الذَّهَبِيّ، والْأَسْمَاء المفردة لِلْحَافِظِ أبي بكر البرديجي، وأَسمَاء رُوَاة الْكتب لأبي عبد الله بن نقطة، وكشف النقاب عَن الْأَسْمَاء والألقاب لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، والْأَنْسَاب لِابْنِ طَاهِر، وإِيضَاح الْإِشْكَال لِلْحَافِظِ عبد الْغَنِيّ الْمصْرِيّ، وغُنْيَة الملتمس فِي إِيضَاح الملتبس للخطيب الْبَغْدَادِيّ، ومُوَضِّح أَوْهَام الْجمع والتفريق لَهُ، وَهُوَ كتاب نَفِيس، وَقع لي بِخَطِّهِ.
وتَلْخِيص الْمُتَشَابه فِي الرَّسْم، وحماية مَا أشكل مِنْهُ عَن بَوَادِر التَّصْحِيف وَالوهم لَهُ أَيْضا، وأَسمَاء من رَوَى عَن مَالك لَهُ، وَكتاب: الْفَصْل للوصل المدرج فِي النَّقْل لَهُ، والتَّهْذِيب للشَّيْخ محيي الدَّين النواوي.

.وَمن كتب الْعِلَل:

مَا أودعهُ أَحْمد، وَابْن الْمَدِينِيّ، وَابْن أبي حَاتِم، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَابْن القَطَّان، وَابْن الْجَوْزِيّ: فِي عللهم.
قَالَ ابْن مهْدي الْحَافِظ: لِأَن أَعْرِف عِلَّة حَدِيث هُوَ عِنْدِي، أحبّ إليَّ من أَن أَكتبَ عشْرين حَدِيثا لَيْسَ عِنْدِي.

.وَمن كتب الْمَرَاسِيل:

مَا أودعهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن أبي حَاتِم، وَابْن بدر الْموصِلِي، وَشَيخنَا صَلَاح الدَّين العلائي، حَافظ زَمَانه- أبْقَاه الله فِي خير وعافية- فِي مراسيلهم.
وَمن كتب الموضوعات: مَا أودعهُ ابْن طَاهِر، والجَوْرَقَاني، وَابْن الْجَوْزِيّ، والصَّغَانيّ، وَابْن بدر الْموصِلِي: فِي موضوعاتهم.

.وَمن كتب الْأَطْرَاف:

أَطْرَاف الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي، حَافظ الْوَقْت، الْمُسَمَّاة ب تحفة الْأَشْرَاف بِمَعْرِِفَة الْأَطْرَاف. اقْتَصَرْتُ عَلَيْهَا؛ لكَونه هَذَّبَ الْأَطْرَاف المتقدِّمة قبله، مَعَ جمعهَا لَهَا ك أَطْرَاف خلف، وَأبي مَسْعُود، وَابْن عَسَاكِر، وَابْن طَاهِر، واستدرك جملَة عَلَيْهِم.
وأطراف خلف أقلُّ وهما وَخطأ من أَطْرَاف أبي مَسْعُود، وأطراف ابْن طَاهِر كَثِيرَة الْوَهم، كَمَا شهد بذلك حَافظ الشَّام ابْن عَسَاكِر.

.وَمن كتب الْأَحْكَام:

أَحْكَام عبد الْحق الْوُسْطَى، والصُّغْرَى، وأَحْكَام الضياء الْمَقْدِسِي، والْأَحْكَام الْكُبْرَى لعبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي، وَأَحْكَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن فرج الْمَعْرُوف ب الطَلَّاع، والمُنْتَقَى لمجد الدَّين ابْن تَيْمِية، والإِلمام للشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، وَالْمَوْجُود من الإِمام لَهُ، والْخُلَاصَة للشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ، وَهِي مفيدة، وَلم يُكَمِّلها.
وَمَا ذكره الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كتاب اخْتِصَار سنَن أبي دَاوُد، من اعتراضات وفوائد.

.وَمن كتب الخلافيات الحديثية:

خلافيات الْحَافِظ أبي بكر الْبَيْهَقِيّ، وَلم أرَ مثلهَا، بل وَلَا صُنِّف. وخلافيات الْحَافِظ جمال الدَّين أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، الْمُسَمَّاة ب التَّحْقِيق فِي أَحَادِيث التَّعْلِيق، وَهِي مفيدة، وَمَا نقب عَلَيْهَا.

.وَمن كتب الأمالي:

أمالي ابْن السَّمْعَانِيّ، أمالي ابْن مَنْدَه، أمالي ابْن عَسَاكِر، أمالي إِمَام الْملَّة وَالدّين، أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ- الَّذِي تصدينا لإِخراج أَحَادِيث شَرحه الْكَبِير- وَهِي مفيدة جدًّا لم أرَ أحدا مَشَى عَلَى مِنْوَالِها، فإنَّه أملاها فِي ثَلَاثِينَ مَجْلِسا، ذكر فِي أول كل مجلسٍ مِنْهَا حَدِيثا بِإِسْنَادِهِ، عَلَى طَريقَة أهل الْفَنّ، ثمَّ تكلم عَلَيْهِ بِمَا يتَعَلَّق بِإِسْنَادِهِ، وحالِ رواتِه، وغريبِه، وعربيته، وفقههِ، ودقائقه، ثمَّ يختمه بفوائد، وأشعار، وحكايات، ورتبها ترتيبًا بديعًا عَلَى نظم كَلِمَات الْفَاتِحَة، بإرداف كلمة آمين لِأَنَّهَا بهَا ثَلَاثُونَ كلمة، فَاشْتَمَلَ الحَدِيث الأول عَلَى كلمة الِاسْم، وَالثَّانِي عَلَى اسْم الله الْعَظِيم، وَالثَّالِث عَلَى الرَّحْمَن، وهلم جرًّا إِلَى آخرهَا.
وَهَذَا تَرْتِيب بديع، وسمَّاها: الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة، ومَنْ نَظَر فِي الْكتاب الْمَذْكُور عَرَفَ قدر هَذَا الإِمام، وَحكم لَهُ بتقدمه فِي هَذَا الْعلم خُصُوصا.

.وَمن كتب النَّاسِخ والمنسوخ:

مَا أودعهُ الإِمام الشَّافِعِي فِي اخْتِلَاف الحَدِيث، والأثرم، والحازمي، وَابْن شاهين، وَابْن الْجَوْزِيّ: فِي تواليفهم.

.وَمن كتب المبهمات فِي الحَدِيث:

مَا أودعهُ الْحَافِظ الْخَطِيب أَبُو بكر الْبَغْدَادِيّ، وَابْن بشكوال، وَابْن طَاهِر: فِي تواليفهم.
وَمَا زَاده الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ فِي اختصاره لكَلَام الْخَطِيب، والحافظ: أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي آخر كِتَابه الْمُسَمَّى ب تلقيح فهوم أهل الْأَثر فِي الْمَغَازِي وَالسير.

.وَمن كتب شُرُوح الحَدِيث والغريب:

مَا ذكره القَاضِي عِيَاض، والمازري قبله، وَالنَّوَوِيّ، والقرطبي: فِي شروحهم ل مُسلم.
وَمَا شرحهُ الْخطابِيّ من: سنَن أبي دَاوُد، والبُخَارِيّ المسمَّى ب الْأَعْلَام.
وَمَا شرَحه النَّوَوِيّ من: البُخَارِيّ، وسنَن أبي دَاوُد وَلم يكملهما.
وَمَا شرَحه الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين من أَوَائِل الإِلمام.
وَمَا شَرحه شَيخنَا، حَافظ مصر فتح الدَّين ابْن سيد النَّاس من جَامع التِّرْمِذِيّ، وَلَو كَمُلَ كَانَ فِي غَايَة الْحسن.
وشرح مُسْند الإِمَام الشَّافِعِي لِابْنِ الْأَثِير، وللإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ أَيْضا، وَهُوَ من جملَة مَا يُعْرَفُ بِهِ قدره فِي هَذَا الْفَنّ.
وَمَا أودعهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلَّام فِي غَرِيبه الَّذِي جمعه فِي أَرْبَعِينَ سنة، وَكَانَ خُلَاصَة عمره. والحَرْبيّ- صَاحب الإِمام أَحْمد- فِي غَرِيبه الْكَبِير، والزَّمَخْشَرِيّ فِي فَائِقِه، وَابْن قُرْقُول فِي مطالعه، والهَرَوِيّ فِي غَرِيبه، وَابْن الْأَثِير فِي نهايته.
وَمَا ذكره فِي جَامع الْأُصُول.
وَمَا ذكره القَلْعِي، وَابْن بَاطِيْش، وَابْن مَعْن: فِي كَلَامهم عَلَى الْمُهَذّب.
والخَطَّابي فِي كِتَابه: تصاحيف الْمُحدثين، والصولي فِيهِ أَيْضا، والعَسْكري فِيهِ أَيْضا. والمُطَرِّزِيّ فِي مغربه، وَمَا أَكثر فَوَائده.

.وَمن كتب أَسمَاء الْأَمَاكِن:

مَا أودعهُ الْوَزير أَبُو عبيد الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم من الْبلدَانِ، والحافظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي تأليفه الْمُسَمَّى بالْمُخْتَلف والمؤتلف فِي أَسمَاء الْأَمَاكِن وهما غَايَة فِي بابهما.

.وَمن كتب أُخرى حَدِيثِيَّةٌ:

كمعجم أبي يعْلى الْموصِلِي، وجَامع المسانيد بألخص الْأَسَانِيد لأبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ، وَهُوَ تَلْخِيص مُسْند الإِمام أَحْمد بن حَنْبَل، ونقي النَّقْل لَهُ، وَكتاب تَحْرِيم الْوَطْء فِي الدبر لَهُ، وبَيَان خَطَأِ من أَخْطَأَ عَلَى الشَّافِعِي فِي الحَدِيث للبيهقي، وفِي اللُّغَة لَهُ أَيْضا، وحَيَاة الْأَنْبِيَاء فِي قُبُورهم لَهُ أَيْضا، وَكتاب الْأَشْرِبَة للإِمام أَحْمد، والْحِلْية لأبي نعيم، وأَمْثَال الحَدِيث للرَّامَهُرْمُزِيّ، والْأَوَائِل للطبراني، وعُلُوم الحَدِيث للْحَاكِم أبي عبد الله، وَابْن الصّلاح.
والدَّعْوَات الكافية فِي الْأَدْوِيَة الشافية لِابْنِ الْقُسْطَلَانِيّ، والْأَدْعِيَة لِلْحَافِظِ أبي الْفضل الْمَقْدِسِي، والصَّوْم لَهُ، والصّيام من السّنَن المأثورة للْقَاضِي يُوسُف بن يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل.
وكَلَام الحافظِ أبي الْفضل بن طَاهِر عَلَى حَدِيث معَاذ، وأَحَادِيث الشهَاب.
والمُحَلَّى شرح المُجَلَّى لأبي مُحَمَّد بن حزم.
وَمَا رَدَّه عَلَيْهِ ابْن عبد الْحق، وَابْن مُفَوِّز، وَشَيخنَا قطب الدَّين عبد الْكَرِيم الْحلَبِي، الْحَافِظ، فِي جُزْء جيد، وَمَا أَكثر فَوَائده.
ورسائل ابْن حزم فِي الْقيَاس، وفَضَائِل الْجِهَاد لبهاء الدَّين بن عَسَاكِر، ابْن الْحَافِظ الْمَشْهُور.
وَمن مصنفات أبي الْخطاب بن دِحْيَة: الْآيَات البَيِّنات فِي أَعْضَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام، ومرج الْبَحْرين فِي فَوَائِد المشرقين والمغربين، والعَلَم الْمَشْهُور فِي فَضَائِل الْأَيَّام والشهور، وخَصَائِص الْأَعْضَاء، والتَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير وَغَيرهَا من مؤلفاته المفيدة.

.وَمن كتب أُخْرَى مُتَعَلقَة بالفقه:

ك تَخْرِيج أَحَادِيث الْمُهَذّب للشَّيْخ زكي الدَّين عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ، رَأَيْت مِنْهُ إِلَى أَوَاخِر الْحَج، وشأنه إِيرَاد الْأَحَادِيث بأسانيده. وَكَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ عَلَى الْوَسِيط، والْمُهَذّب، وَكَلَام الإِمام الرَّافِعِيّ فِي التذنيب الَّذِي لَهُ عَلَى الْوَجِيز.
وَكَلَام الشَّيْخ نجم الدَّين بن الرِّفْعَة، فِي شرحي الْوَسِيط، والتَّنْبِيه، وَغير ذَلِك.
هَذَا مَا حضرني الْآن من الْكتب الَّتِي نظرتها، واعتمدت عَلَيْهَا فِي هَذَا التصنيف وانتخبتها.
وَأما الْأَجْزَاء الحديثية، والمصنفات اللطيفة، والفوائد المنتخبة من الخبايا والزوايا فَلَا ينْحَصر مصنفاتها، وكل نقولاتها فِي الْكتاب معزوة إِلَى قَائِلهَا وناقلها، فإنْ كَانَ فِي المظنة أطلقته، وإنْ لم يكن فِيهَا قَيَّدتهُ بِبَابِهِ.
وَعَدَدْتُ هَذِه الْكتب هَا هُنَا لفائدتين:
إِحْدَاهمَا: أَن النَّاظر قد يُشْكِل عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا ذَكرْنَاهُ عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة، فيراجعه من تواليفهم.
الثَّانِيَة: ليعرف مِقْدَار هَذَا الْكتاب، وبذل جهد الطَّاقَة والوسع فِيهِ.
فإنْ كَمُلَ مَا رُمْنَاهُ، وَحصل مَا قَصَدْنَاه حصل عنْدك أَيهَا الطَّالِب خزانَة من أَنْوَاع الْعُلُوم الْمَذْكُورَة فِيهِ، وكملت فَائِدَة شرح الرَّافِعِيّ، لِأَن محصلهما حينئذٍ يكون جَامعا للفنين- أَعنِي عِلْمَي: الْفِقْه والْحَدِيث- وحائِزًا للمنقبتين، ويلتحق بِمن إِذا ذكرُوا فِي الْقَدِيم والْحَدِيث، يُقَال فِي حَقهم: الجامعون بَين الْفِقْه والْحَدِيث.
وأتوسط فِي الْعبارَة فِيمَا أُورده من علل الحَدِيث، ومتعلقاته، وَإِذا توارد عَلَى التَّعْلِيل- أَو غَيره من الْفُنُون الْمُتَعَلّقَة بِهِ- أَقْوَال أَئِمَّة ذكرتُ قَول أشهرهم لَئِلَّا يطول الْكتاب.
وأُنَبِّه- مَعَ ذَلِكَ- عَلَى مَا أَظهره الله عَلَى يَدي مِمَّا وَقع للْمُتَقَدِّمين والمتأخرين من وهم، أَو غلط، أَو اعْتِرَاض، أَو اسْتِدْرَاك، قَاصِدا بذلك النَّصِيحَة للْمُسلمين، حاشا الظُّهُور أَو التنقيص، معَاذ الله من ذَلِكَ، فَهَل الْفضل إلَّا للمتقدم، وغالب ذَلِكَ إِنَّمَا يَقع من التَّقْلِيد، وَنحن برَاء مِنْهُ بِحَمْد الله وَمَنِّه.
وأُتْبعُ الْكَلَام غَالِبا- بعد بَيَان صِحَة الحَدِيث، وَضَعفه، وغرابته، إِلَى غير ذَلِكَ من فنونه- بِمَا وَقع فِيهِ من ضبط ألفاظٍ، وَأَسْمَاء، وفوائدَ، وإشكالات.
وَهَذَا النَّوْع- وَإِن كَانَ كتَابنَا هَذَا غير مَوْضُوع لَهُ- فبه تكمل الْفَائِدَة، وتتم العائدة، إلَّا أَنَّا نَتَحَرَّى الِاخْتِصَار فِي إِيرَاده، ونقتصر فِي إبرازه، حَذَرَ السَّآمَة والملل.
ووسمته ب الْبَدْر الْمُنِير فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الشَّرْح الْكَبِير.
وقدمت فِي أَوله فصولًا، تكونُ لِمُحَصِّله وَغَيره قَوَاعِد يَرْجِع إِلَيْهَا، وأصولًا فِي شُرُوط الْكتب السِّتَّة، وَغَيرهَا من الْكتب المصنَّفة المتقدِّمة، ليعتمد عَلَى شَرطهَا من أول الْكتاب إِلَى آخِره.
وَفِي آخرهَا فصلا فِي حَال الإِمام الرَّافِعِيّ ومولده، ووفاته، وشيوخه، ومصنفاته، فإنَّه فِي الإِسلام بِمحل خطير، وَبِكُل فَضِيلَة جدير، ليُعْرَف قدره، وَيرد عَلَى كل من جَهِلَ حَاله وفضله.
وَبَيَان حَال وَالِده، ووالدته، فإنَّهما من الَّذين تتنزَّل الرَّحْمَة بذكرهم، ويُبْتَهل إِلَى الله ببركتهم.
جَعَلَه الله مُقَرِّبًا من رضوانه، مُبْعِدًا من سخطه وحرمانه، نَافِعًا لكَاتبه، وسامعه، نفعا شَامِلًا فِي الْحَال والمآل، إنَّه لِمَا يَشَاء فَعَّال، لَا رب سواهُ، وَلَا مَرْجُوًّا إلَّا إيَّاه.
اللَّهُمَّ انفعني بِهِ يَوْم الْقِيَامَة، يَوْم الْحَسْرَة والندامة، ووالدي، ومشايخي، وأحبائي، وَالْمُسْلِمين أَجْمَعِينَ، إِنَّه عَلَى مَا يَشَاء قدير، وَبِكُل مأمول جدير.

.شروط الأئمة:

فصل:
أمَّا موطأ إِمَام دَار الْهِجْرَة، مَالك بن أنس: فشرطها أوضح من الشَّمْس. قَالَ بشر بن عمر الزهْرَانِي: سَأَلت مَالِكًا عَن رجلٍ، فَقَالَ: رَأَيْتَه فِي كتبي؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: لَو كَانَ ثِقَة لرأيته فِي كتبي.
وَقَالَ الإِمام أَحْمد: مالكٌ إِذا رَوَى عَن رجلٍ لَمْ يُعْرَف فَهُوَ حجَّة.
وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ مَالك لَا يبلغ من الحَدِيث إلَّا صَحِيحا، وَلَا يُحَدِّث إلَّا عَن ثِقَات النَّاس.
وَقَالَ صَاحب مُسْند الفردوس: هُوَ أول كتاب صُنِّف فِي الْإِسْلَام، وعلِّقَ عَلَى بَاب الْكَعْبَة بسلسلة الذَّهَب.
فصل:
وَأما مُسْند الإِمام أَحْمد، وَذَلِكَ فِيمَا روينَا بالإِسناد الصَّحِيح عَنهُ أَنه قَالَ: عملت هَذَا الْكتاب- يَعْنِي الْمسند- إِمَامًا، إِذا اخْتلف الناسُ فِي سُنَّةٍ عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم رُجِع إِلَيْهِ.
وَقَالَ حَنْبَل بن إِسْحَاق: جَمَعَنا أَحْمد بن حَنْبَل، أَنا وَصَالح، وَعبد الله وَقَرَأَ علينا الْمسند، ومَا سَمعه مِنْهُ غَيرنَا، وَقَالَ لنا: هَذَا الْكتاب قد جمعته وانتقيته من أَكثر من سَبْعمِائة ألف وَخمسين ألفا، فَمَا اخْتلف الْمُسلمُونَ فِيهِ من حَدِيث رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فارجِعُوا إِلَيْهِ، فإنْ وجدتموه، وإلَّا فَلَيْسَ بحجَّة.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْقَادِر الرُّهَاوي فِي كتاب المادح والممدوح- وَمن خطّ الْمُنْذِرِيّ نقلت-: كَيفَ قَالَ الإِمام أَحْمد هَذَا والْمسند يشْتَمل عَلَى الصِّحَاح، وغرائب، وَأَحَادِيث فِيهَا ضعف؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ إنَّما أَرَادَ بقوله: فإنْ وجدتموه فِيهِ، وإلَّا فَلَيْسَ بِحجَّة: الْأَحَادِيث الصِّحَاح الَّتِي احتوى عَلَيْهَا مُسْنده، دون الغرائب، والضعاف. يَعْنِي: أَن كل حَدِيث يُرَاد للاحتجاج بِهِ، وَالْعَمَل بِحكمِهِ، وَلَيْسَ فِي مُسْنده فَلَيْسَ بِصَحِيح، حكما مِنْهُ بأنَّه لم يبقَ حَدِيث صَحِيح خَارج مُسْنده، وَهَذَا لسعة علمه بالأحاديث، وإحاطته بهَا وبطرقها، وصحاحها، وسقامها.
قَالَ: وَمن أَمْعَنَ فِي طلب الحَدِيث، واستكثر مِنْهُ، وَمن الْكتب المصنفة فِيهِ فِي أَنْوَاع علومه، وَرَآهَا مشحونة بِكَلَامِهِ، وَرَأَى اعْتِمَاد المُصَنِّفين عَلَى كَلَامه، وإحالتهم عَلَيْهِ- من عصره، وزمانه وهلم جرًّا، إِلَى حِين قَلَّ طالبو الحَدِيث، وكَسَد سوقه- عَرفَ صِحَة مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي خَصَائِصه: وَلم يخرج- أَي أَحْمد- إلَّا عَمَّن يثبت عِنْده صدقه، وديانته، دون من طُعِنَ فِي أَمَانَته، يدل عَلَى ذَلِكَ قَول ابْنه عبد الله: سَأَلت أبي عَن عبد الْعَزِيز بن أبان فَقَالَ: لم أخرج عَنهُ فِي الْمسند شَيْئًا، قد أخرجت عَنهُ عَلَى غير وَجه الحَدِيث، لَمَّا حدَّث بِحَدِيث الْمَوَاقِيت تركته.
قَالَ أَبُو مُوسَى: وَمن الدَّلِيل عَلَى أنَّ مَا أودعهُ مُسْنده قد احتاط فِيهِ إِسْنَادًا ومتنًا، وَلم يوردْ فِيهِ إلَّا مَا صحَّ عِنْده ضربه عَلَى أَحَادِيث رجال ترك الرِّوَايَة عَنْهُم، رَوَى عَنْهُم فِي غير الْمسند.
فَائِدَة:
عَدَدُ أَحَادِيث الْمسند أَرْبَعُونَ ألفا، بِزِيَادَات ابْنه عبد الله. كَمَا قَالَه ابْن دحْيَة فِي فَوَائِد المشرقين والمغربين.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي: إِنَّه ثَلَاثُونَ ألفا، وَقَالَ صَاحب مُسْند الفردوس: يُقَال: إِنَّه ضمَّنَه خمسين ألف حَدِيث.
فصل:
وَأما صَحِيح الإِمام أبي عبد الله البُخَارِيّ فَهُوَ أصح الْكتب بعد الْقُرْآن.
روينَا عَنهُ أَنه قَالَ: مَا أدخلت فِي كتاب الْجَامِع إلَّا مَا صحَّ، وَتركت من الصِّحَاح لحَال الطول.
وروينا من جِهَات عَنهُ أَنه قَالَ: صنفت كتاب الصَّحِيح لستّ عشرَة سنة، خرجته من سِتّمائَة ألف حَدِيث، وَجَعَلته حجَّة بيني وَبَين الله- عزَّ وجلَّ.
قُلْتُ: وَأما زعم أبي مُحَمَّد بن حزم الظَّاهِرِيّ أَن فِيهِ حَدِيثا مَوْضُوعا- وَهُوَ حَدِيث شقّ الصَّدْر إِلَى آخِره- فَلَا يُقبل مِنْهُ.
وَقد أجَاب عَن ذَلِكَ ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي فِي جُزْء مُفْرد.
فصل:
وَأما صَحِيح الإِمام أبي الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج، فَهُوَ أصح الْكتب بعد الْقُرْآن أَيْضا، وَبَعض عُلَمَاء الغرب يَقُولُونَ: إنَّه أصح من كتاب البُخَارِيّ. وَلَيْسَ بصواب.
رُوِّينا عَنهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي صَحِيحه أَنه قَالَ: لَيْسَ كل حَدِيث صَحِيح وَضعته فِي كتابي، إنَّما وضعت هَا هُنَا مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح: أَرَادَ- وَالله أعلم- أَنه لم يضع فِي كِتَابه إلَّا الْأَحَادِيث الَّتِي وُجِدَ عِنْده فِيهَا شَرَائِط الصَّحِيح الْمجمع عَلَيْهِ، وإنْ لم يظْهر اجتماعها فِي بَعْضهَا عِنْد بَعضهم.
قُلْتُ: وَأما زعم أبي مُحَمَّد الظَّاهِرِيّ أَيْضا أَن فِيهِ حَدِيثا مَوْضُوعا- وَهُوَ حَدِيث أبي سُفْيَان يَوْم الْفَتْح الْمَشْهُور- فَلَا يقبل مِنْهُ.
وَقد أجَاب عَنهُ الْأَئِمَّة بأجوبة، نذكرها- إِن شَاءَ الله- فِي كتاب الْوكَالَة من ربع الْبيُوع، حَيْثُ يعرض لَهُ الرَّافِعِيّ.
وَاعْلَم أَن مَا ذكره الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي كتاب الْمدْخل إِلَى معرفَة كتاب الإِكليل أَن الصَّحَابِيّ أَو التَّابِع إِذا لم يكن لَهُ إلَّا راوٍ واحدٍ، لم يخرِّجا حَدِيثه فِي الصَّحِيحَيْنِ- أَعنِي الشَّيْخَيْنِ- لم يشترطاه، وَلَا وَاحِد مِنْهُمَا، وَهُوَ منقوض بِمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي كتاب أَدَاء الزَّكَاة، إِن شَاءَ الله- تَعَالَى.
فصل:
وَأما سنَن أبي دَاوُد- رَحِمَهُ اللَّهُ- فقد حَكَى عَنهُ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ- كَمَا أَفَادَهُ ابْن طَاهِر- أَن شَرطه إِخْرَاج أَحَادِيث أقوامٍ لم يُجْمَع عَلَى تَركهم، إِذا صَحَّ الحَدِيث باتصال الإِسناد من غير قطع وَلَا إرْسَال.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي كتاب شُرُوط الْأَئِمَّة: قَالَ أَبُو دَاوُد: كتبت عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسمِائَة ألف حَدِيث، انتخبت مِنْهَا مَا ضمنته كتاب السّنَن، جمعت فِيهِ أَرْبَعَة آلَاف حَدِيث، وَثَمَانمِائَة حَدِيث، ذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ، وَمَا يُقَارِبه.
وَقد اشْتهر عَنهُ من غير وَجه مَا مَعْنَاهُ: أَنه يذكر فِي كل بَاب أصح مَا عرفه فِي ذَلِكَ الْبَاب.
وَقَالَ: مَا كَانَ فِي كتابي من حَدِيث فِيهِ وَهَنٌ شَدِيد فقد بَيَّنْتُه، وَمَا لم أذكر فِيهِ شَيْئا فَهُوَ صَالح، وَبَعضهَا أصح من بعض. نقل ذَلِكَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كِتَابه عُلُوم الحَدِيث، وَالشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى سنَنه عَنهُ.
وَذكر الْحَازِمِي فِي كِتَابه شُرُوط الْأَئِمَّة الْخَمْسَة بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ، أَنه قَالَ فِي رسَالَته الَّتِي كتبهَا إِلَى أهل مَكَّة وَغَيرهَا جَوَابا لَهُم: سَأَلْتُم أَن أذكر لكم الْأَحَادِيث الَّتِي فِي كتاب السّنَن أَهِي أصح مَا عرفت فِي هَذَا الْبَاب؟ فاعلموا أَنه كَذَلِك كُله، إِلَّا أَن يكون قد رُوِيَ من وَجْهَيْن صَحِيحَيْنِ، وَأَحَدهمَا أقدم إِسْنَادًا، وَالْآخر صَاحبه أقوم فِي الْحِفْظ، فَرُبمَا أكتب ذَلِكَ، وَلَا أرَى فِي كتابي من هَذَا عشرَة أَحَادِيث.
وَلم أكتب فِي الْبَاب إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا أَو حديثين، وإنْ كَانَ فِي الْبَاب أَحَادِيث صِحَاح، فإنَّه يكبر، وإنَّما أردْت قرب منفعَته.
وَلَيْسَ فِي كتاب السّنَن الَّذِي صنَّفته عَن رجلٍ مَتْرُوك الحديثِ شيءٌ، فإنْ ذُكِرَ لَك عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم سُنَّةٌ لَيْسَ فِيمَا خَرَّجْتُه، فاعْلَم أنَّه حَدِيث واهٍ، إلَّا أَن يكون فِي كتابي من طَرِيق آخر، فإنِّي لم أخرج الطّرق بِهِ، فإنَّه يكثر عَلَى المتعلم.
وَلَا أعرف أحدا جَمَعَ عَلَى الاستقصاءِ غَيْرِي.
وَنقل النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- النَّص الْمُتَقَدّم عَن أبي دَاوُد- الَّذِي شَارك ابْن الصّلاح فِيهِ فِي كَلَامه عَلَى سنَن أبي دَاوُد- ثمَّ قَالَ: وَهَذَا يُشْكِل؛ فإنَّ فِي سنَنه أَحَادِيث ظَاهِرَة الضعْف لم يُبَيِّنْها، مَعَ أَنَّهَا مُتَّفق عَلَى ضعفها عِنْد الْمُحدثين، كالمرسل، والمنقطع، وَرِوَايَة مَجْهُول. ك شيخ، ورجل، وَنَحْوه، فلابد من تَأْوِيل هَذَا الْكَلَام.
قَالَ: وليعلم أَن مَا وَجَدْنَاهُ فِي سنَنه، وَلَيْسَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا، وَلَا نَص عَلَى صِحَّته أَو حسنه أحد مِمَّن يعْتَمد، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حسن عِنْد أبي دَاوُد أَو صَحِيح، فَيحكم بِالْقدرِ الْمُحَقق، وَهُوَ أَنه حسن. فإنْ نصَّ عَلَى ضعفه من يُعْتَمد، أَو رَأَى الْعَارِف فِي سَنَده مَا يَقْتَضِي الضعْف، وَلَا جابِرَ لَهُ حَكَمْنَا بضعفه.
وَقد قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: إِن أَبَا دَاوُد يخرج الإِسنادَ الضَّعِيف إِذا لم يجدْ فِي الْبَاب غَيره؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى عِنْده من رَأْي الرِّجَال.
وَقَالَ الْخطابِيّ: كتاب أبي دَاوُد جَامع للصحيح وَالْحسن، وأَمَّا الضَّعِيف فإنَّه خَليٌ مِنْهُ. قَالَ: وإنْ وَقع مِنْهُ شيءٌ- لضرب من الْحَاجة- فإنَّه لَا يَأْلُو أَن يبِّين أمره، وَيذكر علته، ويَخْرُجَ من عهدته.
قَالَ: ويُحكى لنا عَن أبي دَاوُد أنَه قَالَ: مَا ذكرت فِي كتابي حَدِيثا اجْتمع الناسُ عَلَى تَركه.
وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي أول أَطْرَافه: صنف أَبُو دَاوُد كِتَابه الَّذِي سمَّاه السّنَن، فأجاد فِي تصنيفه وَأحسن، وَقصد أَن يَأْتِي فِيهِ بِمَا كَانَ صَحِيحا مشتهرًا، أَو غَرِيبا حسنا مُعْتَبرا، ويطرح مَا كَانَ مطَّرحًا مستنكرًا، ويجتنب مَا كَانَ شاذًّا مُنْكرا.
قلت: وَمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ فِيهِ نظر؛ فإنَّ فِي سنَنه أَحَادِيث ظَاهِرَة الضعْف لم يبينها، مَعَ أنَّها ضَعِيفَة كالمرسل، والمنقطع، وَرِوَايَة مَجْهُول: كشيخ، وَرجل، وَنَحْوه، كَمَا سَلَفَ.
وَأجَاب النَّوَوِيّ فِي كَلَامه عَلَى سنَنه عَنهُ: بِأَنَّهُ- وَهُوَ مُخَالف أَيْضا لقَوْله: وَمَا كَانَ فِيهِ وَهن شَدِيد بَيَّنْتُه- لَمَّا كَانَ ضَعْفُ هَذَا النوعِ ظَاهرا، اسْتَغنَى بظهوره عَن التَّصْرِيح ببيانه.
قلت: فعلَى كل حَال لابد من تَأْوِيل كَلَام أبي دَاوُد، والحقُّ فِيهِ مَا قَرَّره النَّوَوِيّ.
وَأما قَول الْحَافِظ أبي طَاهِر السلَفِي: سنَن أبي دَاوُد من الْكتب الْخَمْسَة الَّتِي اتّفق عَلَى صِحَّتهَا عُلَمَاء الشرق والغرب، فَفِيهِ تساهلٌ كبيرٌ.
وتَأَوَّلَ النوويُّ عَلَى إِرَادَة الْمُعظم.
فصل:
وَأما جَامع أبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ: فقد كفانا مُؤْنَة الْكَلَام عَلَيْهِ مُؤَلِفُه، فإنَّه بَيَّن فِيهِ الصَّحِيح وَالْحسن والضعيف، وَقَالَ: صنفت هَذَا الْكتاب، وعرضته عَلَى علماءِ أهلِ الْحجاز فَرَضُوا بِهِ، وعرضته عَلَى عُلَمَاء العراقِ فَرَضُوا بِهِ، وعرضته عَلَى عُلَمَاء خُرَاسَان فَرَضُوا بِهِ، وَمن كَانَ فِي بَيته هَذَا الْكتاب، فكأنَّما فِي بَيته نَبِيٌّ يتَكَلَّم.
وَقَالَ أَبُو نصر عبد الرَّحِيم بن عبد الْخَالِق فِي كِتَابه الموسوم بمَذَاهِب الْأَئِمَّة فِي تَصْحِيح الحَدِيث: كتاب أبي عِيسَى عَلَى أَرْبَعَة أَقسَام:
قسم صَحِيح مَقْطُوع بِهِ، وَهُوَ مَا وَافق فِيهِ البخاريَّ وَمُسلمًا، وَقسم عَلَى شَرط أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقسم أخرجه للضدِّيَّة، وأبَانَ عَن علته، وَقسم رَابِع أبَانَ عَنهُ فَقَالَ: مَا أخرجت فِي كتابي هَذَا إلَّا حَدِيثا قد عَمِلَ بِهِ بعض الْفُقَهَاء.
وَهَذَا شَرط واسعٌ، فإنَّ عَلَى هَذَا الأَصْل كل حَدِيث احْتج بِهِ مُحْتَج أَو عمل بِهِ عاملٌ، أخرجه، سَوَاء صحَّ طَرِيقه أَو لم يصحّ طَرِيقه. وَقد أزاحَ عَن نفسِهِ الكلامَ؛ فإنَّه شَفَى فِي تصنيفه لكتابه، وتكلَّم فِيهِ عَلَى كلِّ حَدِيث بِمَا فِيهِ، وَظَاهر طَرِيقَته:
أَن يترجم الْبَاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث مَشْهُور، عَن صَحَابِيّ قد صَحَّ الطَّرِيق إِلَيْهِ، وأُخرِجَ من حَدِيثه فِي الْكتب الصِّحَاح، فيورد فِي الْبَاب ذَلِك الحكم من حَدِيث صَحَابِيّ آخر لم يخرجوه من حَدِيثه، وَلَا تكون الطَّرِيق إِلَيْهِ كالطريق إِلَى الأول؛ لِأَن الحكم صَحِيح، ثمَّ يُتْبِعُه بِأَن يَقُول: وَفِي الْبَاب عَن فلانٍ وفلانٍ، ويعد فيهم جمَاعَة فِيهم الصَّحَابِيّ وَالْأَكْثَر الَّذِي أُخْرِجَ ذَلِكَ الحكم من حَدِيثه، وقَلَّما يسْلك هَذِه الطَّرِيقَة إلَّا فِي أَبْوَاب مَعْدُودَة. وَقَالَ ذَلِك بنصه: ابْن طَاهِر الْمَقْدِسِي أَيْضا.
وَقَالَ يُوسُف بن أَحْمد: لأبي عِيسَى التِّرْمِذِيّ الضَّرِير الْحَافِظ فَضَائِل تُجمع، وتُروى، وتُسمع، وَكتابه من الْكتب الْخَمْسَة الَّتِي اتّفق أهل الْحل وَالْعقد، وَالْفضل، وَالْفِقْه من الْعلمَاء، وَالْفُقَهَاء، وَأهل الحَدِيث النبهاء عَلَى قبُولهَا، وَالْحكم بِصِحَّة أُصُولهَا، وَمَا ورد فِي أَبْوَابهَا وفصولها.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي: إنَّ جَامع التِّرْمِذِيّ من الْكتب الْخَمْسَة الَّتِي اتّفق عَلَى صِحَّتهَا عُلَمَاء الشرق والغرب.
وَفِيهِمَا نظر؛ لِأَن فِيهِ الضَّعِيف، والواهي، والموضوع.
قَالَ ابْن الْقطَّان فِي علله: جَهِلَ التِّرْمِذِيّ بعضُ من لم يبْحَث عَنهُ، وَهُوَ: أَبُو مُحَمَّد بن حزم، فَقَالَ فِي كتاب الْفَرَائِض من الإيصال إِثْر حَدِيث أوردهُ: إنَّه مَجْهُول. فَأوجب ذَلِكَ فِي ذكره- من تعْيين من شهد لَهُ بالإِمامة- مَا هُوَ مستغنٍ عَنهُ، بِشَاهِد علمه، وَسَائِر شهرته، فَمِمَّنْ ذكره فِي جملَة: الإِمام الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله.
وَقَالَ الخليلي فِي كِتَابه: ثِقَة مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ ذكره أَيْضا: الْأَمِير ابْن مَاكُولَا، وَابْن الفرضي، والخَطَّابي.
وَنقل ابْن دِحْيَة فِي كتاب التَّنْوِير فِي مولد السراج الْمُنِير جهالته عَن ابْن حزم، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ فِيهِ الْخَطِيب، وَلم يذكرهُ فِي تَارِيخه.
قَالَ: وَزعم أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن أبي بكر الصَّيْرَفِي أَن التِّرْمِذِيّ لم يسمع هَذَا الْكتاب.
فصل:
وَأما شَرط أبي عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي سنَنه، فَقَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ- كَمَا أَفَادَهُ ابْن طَاهِر-: إنَّ شَرطه إِخْرَاج أَحَادِيث أَقوام لم يُجْمَع عَلَى تَركهم، إِذا صَحَّ الحَدِيث باتصال الإِسناد، من غير قطع، وَلَا إرْسَال.
قَالَ ابْن طَاهِر: سَأَلت الإِمام أَبَا الْقَاسِم سعد بن عَلّي الزَّنْجَانيّ عَن حالِ رجلٍ من الروَاة فَوَثَّقَه، قُلْتُ: إنَّ أَبَا عبدَ الرَّحْمَن النَّسَائِيّ ضَعَّفَه. فَقَالَ لي: لأبي عبد الرَّحْمَن فِي الرِّجَال شرطٌ أَشد من شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم.
وَقَالَ أَبُو طَالب أَحْمد بن نصر الْحَافِظ: من يصبر عَلَى مَا يصبر عَلَيْهِ النَّسَائِيّ؟ كَانَ عِنْده حَدِيث ابْن لَهِيعَة تَرْجَمَة تَرْجَمَة، فَمَا حدَّث بهَا.
وَقَالَ أَحْمد بن مَحْبُوب الرَّمْلي: سَمِعت أَبَا عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ يَقُول: لما عَزَمْتُ عَلَى جَمْع كتاب السّنَن استخرت الله- تَعَالَى- فِي الرِّوَايَة عَن شُيُوخ كَانَ فِي الْقلب مِنْهُم بعض الشَّيْء، فَوَقَعت الْخيرَة عَلَى تَركهم، فَنَزَلْتُ فِي جملَة من الْأَحَادِيث كنت أعلو فِيهَا عَنْهُم.
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمعَافِرِي الْفَقِيه: إِذا التُفِت إِلَى مَا يُخرجهُ أهل الحَدِيث، فَمَا خرجه النَّسَائِيّ أقرب إِلَى الصِّحَّة مِمَّا خَرَّجه غَيره.
بل من النَّاس من يعده من أهل الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ يبيِّن عَن علل الْأَسَانِيد، وإنْ أدخلها فِي كِتَابه.
وَقد حُدِّثْنا عَنهُ أَنه قَالَ: لم أُخْرِج فِي كتابي السّنَن من يُتَّفَق عَلَى تَركه، فإنْ أَخْرَج مِنْهُ أحدا بَيَّنه، وَهَذِه رُتْبَة شريفة.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه: الَّذين أخرجُوا الصَّحِيح، وميِّزوا الثَّابِت من الْمَعْلُول، وَالْخَطَأ من الصَّوَاب أَرْبَعَة: البُخَارِيّ، وَمُسلم، وَأَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ.
وَقَالَ أَبُو بكر البرقاني الْحَافِظ: ذكرت لأبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ أَبَا عبيد بن حربويه، فَذكر من جلالته، وفضله، وَقَالَ: حدَّث عَنهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ فِي الصَّحِيح، وَلَعَلَّه مَاتَ قبله بِعشْرين سنة.
قَالَ ابْن طَاهِر: فالدارقطني سمَّى كتاب السّنَن صَحِيحا، مَعَ فَضله، وتحقيقه فِي هَذَا الشَّأْن.
وَقَالَ الْحَافِظ عبد الْغَنِيّ الْمصْرِيّ: سَمِعت أَبَا عَلّي الْحسن بن خضر السُّيُوطِيّ يَقُول: رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، وَبَين يَدَيْهِ كُتب كَثِيرَة، مِنْهَا كتاب السّنَن لأبي عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ لي النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِلَى مَتى وَإِلَى كَمْ؟ هَذَا يَكْفِي. وَأخذ بِيَدِهِ الْجُزْء الأول من كتاب الطَّهَارَة من السّنَن لأبي عبد الرَّحْمَن، فَوَقع فِي روعي أَنه يَعْنِي كتاب السّنَن لأبي عبد الرَّحْمَن.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم: قَوَاعِد الإِسلام أَرْبَعَة: الصحيحان، وكتابَيْ أبي دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، فَارْجِعُوا إِلَيْهَا.
قُلْتُ: وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي: إِنَّه اتّفق عَلَى صِحَّته عُلَمَاء الْمشرق وَالْمغْرب، وَلَا يَخْلُو من نزاع.
فصل:
وَأما سنَن أبي عبد الله بن مَاجَه الْقزْوِينِي: فَلَا أعلم لَهُ شرطا، وَهُوَ أَكثر السّنَن الْأَرْبَعَة ضعفا، وَفِيه مَوْضُوعَات، مِنْهَا: مَا ذكره فِي أَثْنَائِهِ فِي فضل قَزْوِين.
لَكِن قَالَ أَبُو زرْعَة- فِيمَا روينَا عَنهُ-: طالعت كتاب أبي عبد الله بن مَاجَه، فَلم أجد فِيهِ إلَّا قدرا يَسِيرا مِمَّا فِيهِ شَيْء. وَذكر قدر بضعَة عشر، أَو كلَاما هَذَا مَعْنَاهُ.
وَهَذَا الْكَلَام من أبي زرْعَة- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَوْلَا أَنه مَرْوِيّ عَنهُ من أوجه، لجزمتُ بِعَدَمِ صِحَّته عَنهُ، فإنَّه غير لائقٍ بجلالته.
لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين قَالَ فِي شرح الإِلمام: هَذَا الْكَلَام من أبي زرْعَة لابد من تَأْوِيله، وإخراجه عَن ظاهرِه، وَحمله عَلَى وَجه يَصح.
وَعَجِيب قَول ابْن طَاهِر: حَسبك من كتاب يعرض عَلَى أبي زرْعَة الرَّازِيّ، وَيذكر هَذَا الْكَلَام بعد إمعان النّظر والنقد.
وَقَوله: ولعمري إنَّ كتاب أبي عبد الله بن مَاجَه، من نظر فِيهِ علم منزلَة الرجل: من حسن التَّرْتِيب، وغزارة الْأَبْوَاب، وَقلة الْأَحَادِيث، وَترك التّكْرَار، وَلَا يُوجد فِيهِ من النَّوَازِل، والمقاطيع، والمراسيل، وَالرِّوَايَة عَن الْمَجْرُوحين، إلَّا هَذَا الْقدر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو زرْعَة.
وَرَوَى ابْن عَسَاكِر عَن أبي الْحسن بن بابويه: قَالَ أَبُو عبد الله بن مَاجَه: عرضت هَذِه النُّسْخَة عَلَى أبي زرْعَة، فَنظر فِيهِ وَقَالَ: أَظن إنْ وَقع هَذَا فِي أَيدي النَّاس تعطَّلت هَذِه الْجَوَامِع كلهَا، أَو أَكْثَرهَا. ثمَّ قَالَ: لَعَلَّه لَا يكون فِيهِ تَمام ثَلَاثِينَ حَدِيثا مِمَّا فِي إِسْنَاده ضعف، أَو قَالَ: عشْرين وَنَحْوهَا من الْكَلَام. قَالَ: وَحكي عَنهُ أَنه نظر فِي جُزْء من أَجْزَائِهِ، وَكَانَ عِنْده فِي خَمْسَة أَجزَاء.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: لابد من تَأْوِيله جزما، وَلَعَلَّه أَرَادَ ذَلِكَ الْجُزْء الَّذِي نظر فِيهِ، أَو غَيره مِمَّا يَصح.
وَقَالَ ابْن طَاهِر: وَسنَن ابْن مَاجَه وإنْ لم تشتهر عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء، فإنَّ لَهُ ب الرّيّ، وَمَا وَالاَهَا من ديار الْجَبَل وقوهستان- وعدَّد بلادًا- شأنٌ عظيمٌ، عَلَيْهِ اعتمادهم، وَله عِنْدهم طرق كَثِيرَة.
فصل:
وَأما صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان، فشرطه- كَمَا قَالَ فِي خطْبَة صَحِيحه-: نملي الْأَخْبَار بأشهرها إِسْنَادًا، وأوثقها عمادًا من غير وجود قطعٍ فِي سندها، وَلَا ثُبُوت جرح فِي ناقلها.
ثمَّ قَالَ بعد ذَلِكَ بأوراق: وشرطنا فِي نقل مَا أودعناه كتَابنَا هَذَا من السّنَن، فإنَّا لَمْ نحتج فِيهِ إلَّا بحديثٍ اجْتمع فِي كل شيخٍ من رُوَاته خَمْسَة أَشْيَاء:
الأول: الْعَدَالَة فِي الدَّين بالستر الْجَمِيل.
وَالثَّانِي: الصدْق فِي الحَدِيث بالشهرة فِيهِ.
وَالثَّالِث: الْعقل مَا يحدث من الحَدِيث.
وَالرَّابِع: الْعلم بِمَا يحِيل من مَعَاني مَا يُروى.
وَالْخَامِس: المتعري خَبره عَن التَّدْلِيس عَلَى رِوَايَته.
فَكل من اجْتمع عِنْده هَذِه الْخِصَال الْخمس احتججنا بحَديثه، وبنينا الْكتاب عَلَى رِوَايَته، وكل من تَعَرَّى عَن خصْلَة من هَذِه الْخِصَال الْخمس لم نحتج بِهِ.
ثمَّ شرع- رَحْمَة الله عَلَيْهِ- فِي بَيَان الشُّرُوط الْمَذْكُورَة وَاحِدًا بعد واحدٍ، فَأفَاد وأجاد، فَمَا أحسن كَلَامه.
وَلَعَلَّ غَالب صَحِيحه منتزع من صَحِيح شَيْخه، إِمَام الْأَئِمَّة، أبي بكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة، فإنِّي رَأَيْت قِطْعَة من صَحِيح ابْن خُزَيْمَة إِلَى كتاب الْبيُوع، وكلَّما يَقُول ابْن حبَان فِي صَحِيحه: نَا ابْن خُزَيْمَة. رَأَيْته فِي الْقطعَة الْمَذْكُورَة.
وترتيب هَذَا الصَّحِيح تَرْتِيب بديع، لم يُسْبَق إِلَيْهِ، يتَعَيَّن عَلَى طَالب الحَدِيث الْوُقُوف عَلَيْهِ، والكشف مِنْهُ من أصعب شَيْء.
وَقد رَتَّبه عَلَى تَرْتِيب الْكتب الْفِقْهِيَّة الشَّيْخ الإِمَام عَلَاء الدَّين أَبُو الْحسن عَلّي بن بلبان الْفَارِسِي الْحَنَفِيّ، تغمده الله برحمته.
فصل:
وَأما الْمُسْتَدْرك للْحَاكِم أبي عبد الله، فشرطه كَمَا قَالَ هُوَ فِي خطْبَة كِتَابه: سَأَلَني- جمَاعَة من أَعْيَان أهل الْعلم بِهَذِهِ الْمَدِينَة، وَغَيرهَا أَن أجمع كتابا يشْتَمل عَلَى الْأَحَادِيث المروية بأسانيد يحْتَج مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَمُسلم بن الْحجَّاج بِمِثْلِهَا، إِذْ لَا سَبِيل إِلَى إِخْرَاج مَا لَا علَّة لَهُ، فإنَّهما- رحمهمَا الله- لم يدعيا ذَلِكَ لأنفسهما.
وَقد خَرَّج جمَاعَة من عُلَمَاء عصرهما، وَمن بعدهمَا عَلَيْهِمَا أَحَادِيث قد أَخْرَجَاهَا وَهِي معلولة، وَقد جهدت فِي الذَّبِّ عَنْهُمَا فِي الْمدْخل إِلَى الصَّحِيح بِمَا رضيه أهل الصَّنْعَة.
وَأَنا أستعينُ الله عَلَى إِخْرَاج أَحَادِيث رواتها ثِقَات، قد احْتج بِمِثْلِهَا الشَّيْخَانِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- أَو أَحدهمَا، وَهَذَا شَرط الصَّحِيح عِنْد كَافَّة فُقَهَاء الإِسلام: أَن الزِّيَادَة فِي الْأَسَانِيد والمتون من الثِّقَات مَقْبُولَة.
هَذَا لفظ الْحَاكِم برمتِهِ، وَهُوَ صَرِيح فِي أَن مُرَاده بقوله: عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا: أَن رجال إِسْنَاده احتجا بمثلهم، لَا أنَّ نَفْس رِجَاله احتجا بهم.
نعم، خَالف هَذَا الِاصْطِلَاح فِي كِتَابه فَاعْترضَ عَلَيْهِ من هَذَا الْوَجْه: الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح، والنواوي، وتقي الدَّين بن دَقِيق الْعِيد، والحافظ شمس الدَّين الذَّهَبِيّ فِي اختصاره للمستدرك، فَيَقُولُونَ عقيب قَوْله: إِنَّه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا: فِيهِ فلَان، وَلم يخرج لَهُ مَنْ صَححهُ عَلَى شَرطه.
ثمَّ فِي تَسْمِيَة هَذَا المُصَنّف بالْمُسْتَدْرك أَولا نظرٌ؛ لِأَنَّهُمَا لم يلتزما اسْتِيعَاب الصَّحِيح بإقرارهما- كَمَا قدَّمناه عَنْهُمَا- فَكيف يسْتَدرك عَلَيْهِمَا؟!
فتركنا وسَلَّمنا التَّسْمِيَة الْمَذْكُورَة، فَكل حَدِيث لَهُ إِسْنَاد صَحِيح، احتجَّ الشَّيْخَانِ بِمثلِهِ فَهُوَ عَلَى شَرطهمَا، كَمَا قرَّره، وكل حَدِيث إِسْنَاده صَحِيح، وَلم يحْتَج الشَّيْخَانِ بِمثلِهِ، كَيفَ يَصح استدراكه، مَعَ الْتِزَام الشَّيْخَيْنِ عدم اسْتِيعَاب الصَّحِيح؟
مَعَ أَن الْحَاكِم عَلَيْهِ مناقشة فِي كلا الْقسمَيْنِ، قَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي أول الموضوعات: لَو نُوقِشَ فِيهِ بَانَ غلطه. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي كِتَابه عُلُوم الحَدِيث: اعتنى الْحَاكِم أَبُو عبد الله بِالزِّيَادَةِ فِي عدد الحَدِيث الصَّحِيح الزَّائِد عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَجمع ذَلِكَ فِي كتاب سمَّاه الْمُسْتَدْرك أودعهُ مَا لَيْسَ فِي وَاحِد من الصَّحِيحَيْنِ، مِمَّا رَآهُ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قد أخرجَا عَن رُوَاته فِي كِتَابَيْهِمَا، أَو عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَحده، أَو عَلَى شَرط مُسلم وَحده، وَمَا أَدَّى اجْتِهَاده إِلَى تَصْحِيحه، وإنْ لم يكن عَلَى شَرط وَاحِد مِنْهُمَا.
وَهُوَ وَاسع الخطو فِي شَرط الصَّحِيح، متساهلٌ فِي الْقَضَاء بِهِ، فَالْأَوْلَى أَن نتوسط فِي أمره فَنَقُول: مَا حكم بِصِحَّتِهِ، وَلم نجد ذَلِكَ فِيهِ لغيره من الْأَئِمَّة، إنْ لم يكن من قبيل الصَّحِيح، فَهُوَ من قبيل الْحسن يُحتج ويُعمل بِهِ، إلَّا أَن تظهر فِيهِ عِلّة توجب ضعفه.
قَالَ: ويقاربه فِي حكمه صَحِيح أبي حَاتِم بن حبَان البستي.
وَقَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الشاذياخي: كُنَّا فِي مجْلِس السَّيِّد أبي الْحسن، فسُئِلَ الْحَاكِم عَن حَدِيث الطير، فَقَالَ: لَا يَصح، وَلَو صَحَّ لما كَانَ أحدٌ أفضل من عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بعد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ ابْن طَاهِر فِي حَدِيث الطير الْمَشْهُور، الْمَرْوِيّ من نَحْو عشْرين طَرِيقا- عائبًا عَلَى إِخْرَاج الْحَاكِم لَهُ فِي مُسْتَدْركه-: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع، كل طرقه بَاطِلَة معلولة، إنَّما يَجِيء عَن سقاط أهل الْكُوفَة والمجاهيل عَن أنس وَغَيره.
قَالَ: وصنَّف الْحَاكِم فِي جمع طرقه جُزْءا. قَالَ: وَلَا يَخْلُو الْحَاكِم من أحد أَمريْن: إمَّا الْجَهْل بِالصَّحِيحِ، فَلَا يعْتَمد عَلَى قَوْله؛ وإمَّا الْعلم بِهِ، وَيَقُول بِخِلَافِهِ، فَيكون معاندًا كَذَّابًا.
قَالَ: وَله دسائس. قَالَ: وَبلغ الدَّارَقُطْنِيّ أَن الْحَاكِم أَدخل حَدِيث الطير فِي الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، فَقَالَ: يسْتَدرك عَلَيْهِمَا حَدِيث الطير؟! فَبلغ الْحَاكِم، فَأخْرجهُ من الْكتاب.
وَكَانَ يُتَّهم بالتعصبِ للرافضة.
وَكَانَ يَقُول: هُوَ حَدِيث صَحِيح، وَلم يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
قُلْتُ: حَدِيث الطير مَوْجُود فِي نسخ الْمُسْتَدْرك الَّتِي بِأَيْدِينَا الْآن بِمصْر وَالشَّام.
قَالَ الْخَطِيب: وحَدَّثَنَي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأرموي بنيسابور- وَكَانَ شَيخا، فَاضلا، صَالحا، عَالما- قَالَ: جمع الْحَاكِم أَبُو عبد الله أَحَادِيث، زَعَمَ أَنَّهَا صِحاح عَلَى شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم، يلْزمهُمَا إخْرَاجهَا فِي صَحِيحَيْهِمَا، مِنْهَا: حَدِيث الطير، و«من كنت مَوْلَاهُ فعليّ مَوْلَاهُ» فأنكرها عَلَيْهِ أَصْحَاب الحَدِيث، وَلم يلتفتوا إِلَى قَوْله، وَلَا صوَّبُوه فِي فعله.
وَقَالَ ابْن القَطَّان فِي علله: هُوَ حَافظ، وَقد ينْسب إِلَى غَفلَة.
وَقَالَ ابْن طَاهِر: وَسمعت المظفر بن حَمْزَة بجرجان يَقُول: سَمِعت أَبَا سعد الْمَالِينِي يَقُول: طالعت كتاب الْمُسْتَدْرك عَلَى الشَّيْخَيْنِ الَّذِي صنفه الْحَاكِم من أَوله إِلَى آخِره، فَلم أر فِيهِ حَدِيثا عَلَى شَرطهمَا.
قُلْتُ: هَذَا الْكَلَام أستبعد صِحَّته عَن هَذَا الْحَافِظ؛ لِأَن الْمُشَاهدَة تَدْفَعهُ، وقد قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح فِي عُلُوم الحَدِيث: كتاب الْمُسْتَدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ للْحَاكِم أبي عبد الله كتاب كَبِير، يشْتَمل مِمَّا فاتهما عَلَى شَيْء كثير، وإنْ يكن عَلَيْهِ فِي بعضه مقَال، فَإِنَّهُ يصفو لَهُ مِنْهُ صَحِيح كثير.
وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ- عقب الْمقَالة الْمُتَقَدّمَة-: هَذَا إِسْرَاف وغلو من الْمَالِينِي، وإلَّا فَفِي الْمُسْتَدْرك جملَة وافرة عَلَى شَرطهمَا، وَجُمْلَة كَبِيرَة عَلَى شَرط أَحدهمَا، لَعَلَّ مَجْمُوع ذَلِكَ نَحْو نصف الْكتاب، وَفِيه نَحْو الرّبع مِمَّا صَحَّ سَنَده، وَفِيه بعض الشَّيْء أَو لَهُ عِلّة، وَمَا بَقِي- وَهُوَ نَحْو الرّبع- فَهُوَ مَنَاكِير وواهيات لَا تصحّ، وَفِي بعض ذَلِكَ مَوْضُوعَات.
قُلْتُ: وَقد أفردت مَا ردَّ بِهِ الذَّهَبِيّ عَلَى الْحَاكِم أبي عبد الله، فِي تلخيصه لمستدركه، بِزِيَادَات ظَفرت بهَا، فَجَاءَت سَبْعَة كراريس، وَذَلِكَ قريب من مقَالَته الْمُتَقَدّمَة.
وَاعْلَم أَيهَا النَّاظر فِي هَذَا الْكتاب إِذا رَأَيْتنَا نقلنا عَن الْحَاكِم تَصْحِيحا لحَدِيث، وسكتنا عَلَيْهِ فَشُدَّ عَلَى ذَلِكَ يَديك، فَإنَّا سبرنا إِسْنَاده، وَيكون الْأَمر كَمَا قَالَه. وَمَا لم يكن كَذَلِك، فإنَّا نشفعه بالاعتراض عَلَيْهِ- إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فصل:
هَذَا آخر مَا وقفت عَلَيْهِ من شُرُوط بعض الْكتاب الَّتِي نقلنا مِنْهَا هَذَا الْكتاب، ذكرتها هُنَا مَجْمُوعَة ليحال مَا يَقع بعْدهَا عَلَيْهَا، فإنَّ الْكتاب بأسره مَبْنِيّ عَلَيْهَا، وَبَاقِي الْكتب يسير حَالهَا عَلَى الصّفة المرضية فِي مواطنها- إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فصل:
فِي معرفَة حَال الإِمام الرَّافِعِيّ، وشيوخه، ومولده، ووفاته، ومصنفاته، فإنَّه كَانَ فِي الإِسلام بِمحل خطير، وَبِكُل فَضِيلَة جدير، ومعرفَة بَيته الطَّاهِر، وسلفه الْكِرَام، فَإِنَّهُم من الْعلمَاء الْأَعْلَام، وَالسَّلَف الْكِرَام، رجَالًا وَنسَاء.
أما هُوَ: فَهُوَ الإِمام، الْعَالم، العلَّامة، الْمُجْتَهد، إِمَام الملَّة والدِّين، حجَّة الإِسلام وَالْمُسْلِمين، أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم ابْن الإِمام أبي الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن الْفضل بن الْحسن بن الْحُسَيْن.
كَذَا سَاق فِي نسبه فِي أَمَالِيهِ، وَكَذَا كتب لَهُ بِمَا قَدَّمناه من الْأَلْفَاظ أهلُ زمانِهِ.
القَزْوِيْنيّ الرَّافِعِيّ الشَّافِعِي، خَاتِمَة الْأَئِمَّة من أَصْحَابه المرجوعِ إِلَى قَوْلهم.
وقَزوين: بِفَتْح الْقَاف، مَدِينَة مَعْرُوفَة، كَذَا قَالَه ابْن السَّمْعَانِيّ. وَقَالَ غَيره: هِيَ مَدِينَة كَبِيرَة فِي عراق الْعَجم، عِنْد قِلاَع الإِسماعيلية.
وَقد اخْتُلِف فِي نِسْبَة الرَّافِعِيّ إِلَى مَاذَا؟
فَقَالَ الشَّيْخ محيي الدَّين النَّوَوِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: هُوَ مَنْسُوب إِلَى رافعان، قَرْيَة من بِلَاد قزوين.
وَذكر الإِمام ركن الدَّين عبد الصَّمد بن مُحَمَّد الديلمي، الْقزْوِينِي، أَنه سَأَلَ القَاضِي مظفر الدَّين، قَاضِي قزوين: إِلَى مَاذَا ينْسب الرَّافِعِيّ؟ فَقَالَ: كتب بِخَطِّهِ، وَهُوَ عِنْدِي فِي كتاب التدوين فِي أَخْبَار قزوين أَنه مَنْسُوب إِلَى رَافع بن خديج رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وَقَالَ ركن الدَّين الْمَذْكُور: وَكنت سَمِعت قبل ذَلِكَ من الشَّيْخ شرف الدَّين أَنه مَنْسُوب إِلَى أبي رَافع، مولَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَضي عَنهُ.
وَذكر ركن الدَّين هَذَا أنَّه لم يسمع بِبِلَاد قزوين بقرية يُقَال لَهَا: رافعان.
ولَمَّا ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ هَذِه النِّسْبَة- وَهِي الرَّافِعِيّ- فِي كِتَابه، قَالَ: هِيَ نِسْبَة إِلَى أبي رَافع.
وَفِي تَارِيخ خوارزم شاه لأبي الْفضل المنسي- فِي أثْنَاء حِكَايَة ذكر الإِمَام الرَّافِعِيّ هَذَا فَقَالَ: الشَّيْخ إِمَام الدَّين الرَّافِعِيّ.
قَالَ شَيخنَا بَقِيَّة الْحفاظ صَلَاح الدَّين العلائي شيخ الْقُدس الشريف- أبقاه الله فِي خير وعافية-: وَكَأَنَّهُ- وَالله أعلم- شُبِّه عَلَى من نسبه إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا: رافعان، وَإِنَّمَا هَذَا اللَّفْظ نِسْبَة أَعْجَمِيَّة إِلَى رَافع، وَالظَّاهِر أَنه رَافع بن خديج، الصَّحَابِيّ، أحد الْأَنْصَار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم كَمَا كتب هُوَ بِخَطِّهِ.
وأخبرت أَيْضا عَن قَاضِي الْقُضَاة جلال الدَّين الْقزْوِينِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَنه كَانَ يَقُول: إنَّ رافعان بالعجمي، مثل الرَّافِعِيّ بالعربي، فإنَّ الْألف وَالنُّون فِي آخر الِاسْم عِنْد الْعَجم كياء النّسَب فِي آخِره عِنْد الْعَرَب.
فرافعان نِسْبَة إِلَى رَافع، وَهَذَا مَشْهُور عِنْد الْعَجم بالإِمام رافعان.
قَالَ: ثمَّ إِنَّه لَا يعرف بنواحي قزوين بلد يُقَال لَهَا: رَافع، بل هُوَ مَنْسُوب إِلَى جد من أجداده.
فَظهر بِهَذَا أَن مَا ادَّعاه النَّوَوِيّ لَا أصل لَهُ، فالرافعي أعرف بِنَفسِهِ، وَكَذَا أهل قزوين أعرف ببلادهم.
ولد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه تَقْرِيبًا سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة؛ فإنَّه قَالَ فِي الْأَرْبَعين الَّتِي خرَّجها فِي الرَّحْمَة- وَلنَا بهَا رِوَايَة- أبنا وَالِدي حضورًا وَأَنا فِي الثَّالِثَة، سنة ثَمَان وَخمسين. أَفَادَ ذَلِك شَيخنَا صَلَاح الدَّين الْمَذْكُور.
وَرَأَيْت فِي أَمَالِيهِ- أَعنِي الرَّافِعِيّ- فِي أَوَائِل الْمجْلس الأول، مَا نَصه:- فِي تَرْجَمَة سعد الْخَيْر بن مُحَمَّد بن سهل الْأنْصَارِيّ المغربي الأندلسي- أَن سَعْدا هَذَا توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة.
قَالَ: وَسمع وَالِدي مِنْهُ الْكثير، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يغلب عَلَيْهِ فِي آخر عمره مَا يغلب عَلَى المشتاقين. قَالَ: وَكنت أتولى خدمته فِي مرض وَفَاته، ودعا لي بالسعادة غير مرّة فِيهِ، وَأَرْجُو أَن يستجيب الله دعاءه. وَكَانَ كثيرا مَا ينشد فِي تِلْكَ المرضة:
أَنا إنْ مِتُّ فالهوى حَشْو قلبِي ** وبذا الْهَوَى يَمُوت الْكِرَام هَذَا نَص مَا ذكر، فَإِن كَانَ المُرَاد بقوله: وَكنت أتولى خدمته: وَالِد الإِمام الرَّافِعِيّ، فَلَا إِشْكَال؛ وَإِن كانَ المُرَاد الإِمام الرَّافِعِيّ نَفسه، فَهُوَ مُشكل؛ لِأَن سَعْدا توفّي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة، وَكَانَ الرَّافِعِيّ إذْ ذَاكَ يَخْدمه فِي مَرضه، وَأَقل من يتأهل للْخدمَة أَن يكون بَالغا، فَيكون مولد الرَّافِعِيّ عَلَى هَذَا- تخمينًا- سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة.

وَيبقى مُخَالفا لما أخبر بِهِ فِي أربعينه من أَن وَالِده أخبرهُ حضورًا وَهُوَ فِي الثَّالِثَة، سنة ثَمَان وَخمسين، فلينقح ذَلِك.
قَرَأَ الحَدِيث عَلَى وَالِده، قَالَ فِي الْأَرْبَعين: أَخْبرنِي وَالِدي بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة، وَعَلَى أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الطَّالْقَانيِّ خَال والدته، الْآتِي ذكره، وَعَلَى أبي بكر عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك.
وسَمعه من جماعات: كأحمد بن حسنويه بن حاجي الزبيري الشريف الأديب المناظر الْفَقِيه، والواقد بن خَلِيل الْحَافِظ، جد الزبيري لأمه، وَأحمد بن الْحسن العطَّار، وَالْحسن بن أَحْمد بن الْحسن بن أَحْمد بن مُحَمَّد العطَّار الهمذاني الْحَافِظ الْكَبِير، سمع مِنْهُ بهمذان، وَاللَّيْث بن سعد الْكشميهني الهمذاني، وحامد بن مَحْمُود بن عَلّي الماوراء النَّهْرِي الْخَطِيب الرَّازِيّ الْمُفْتِي المناظر الْمُحدث، وشهردار بن شيرويه بن فناخسرو الديلمي المتقن الْحَافِظ صَاحب الفردوس وَعبد الله بن أبي الْفتُوح بن عمرَان العمراني أَبُو حَامِد، أحد الْفُقَهَاء المعتبرين، وَعبد الْوَاحِد بن عَلّي بن مُحَمَّد، وَعلي بن عبيد الله بن الْحسن بن الْحُسَيْن بن بابويه، الرَّازِيّ الْحَافِظ وَعلي بن الْمُخْتَار بن عبد الْوَاحِد العربوي، وَعلي بن سعيد الحَبَّار، ومبارك بن عبد الرَّحْمَن، وَمُحَمّد بن أبي طَالب- أَو طَالب- ابْن بلكويه بن أبي طَالب الضَّرِير الْمُقْرِئ العابد، وَمُحَمّد بن عبد الْبَاقِي بن أَحْمد بن سلمَان أَبُو الْفَتْح بن البَطِّي، سمع مِنْهُ بِبَغْدَاد، وَمُحَمّد بن أَحْمد النَّيْسَابُورِي، وَيَحْيَى بن ثَابت البَقَّال، وَأَبُو الْكَرم الْهَاشِمِي، وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن النجَّار الْحَافِظ صَاحب ذيل تَارِيخ بَغْدَاد.
وَرَوَى بالإِجازة الْعَامَّة عَن: أبي سعد السَّمْعَانِيّ.
والخاصة عَن: أبي زرْعَة طَاهِر بن الْحَافِظ أبي الْفضل مُحَمَّد بن عَلّي الْمَقْدِسِي، وَرَجَب بن مَذْكُور بن أرنب، وَغَيرهمَا.
رَوَى عَن هَؤُلَاءِ كلهم- خلا عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك- فِي أَمَالِيهِ، وَهُوَ فِي أربعينه.
رَوَى عَنهُ بِالسَّمَاعِ: وَلَده الإِمام عَزِيز الدَّين- مُحَمَّد، والحافظ زكي الدَّين عبد الْعَظِيم الْمُنْذِرِيّ، سمع مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة- عَلَى ساكنها أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام- وحَدَّث عَنهُ فِي مُعْجَمه، وَلم يكن حِين اجْتمع بِهِ عرف أَنه ذَلِك الإِمام؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي زِيّ الْفُقَرَاء الصَّالِحين، وَآخَرُونَ.
وبالإِجازة: ابْن أُخْته أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن أبي سعيد الْقزْوِينِي الطاوسي، وَأَبُو الْفَتْح عبد الْهَادِي بن عبد الْكَرِيم الْقَيْسِي، خطيب المقياس، وفخر الدَّين عبد الْعَزِيز بن قَاضِي الْقُضَاة عماد الدَّين عبد الرَّحْمَن، الْمَعْرُوف ب ابْن السكرِي، وَغَيرهم.
وَمن حَدِيثه: مَا أَنا بَقِيَّة الحفَّاظ صَلَاح الدَّين أَبُو سعيد خَلِيل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي، بالقدس الشريف، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ: أَنا أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُؤَذّن الواني بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنا أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن أبي سعيد بن مَحْمُود بن الناصح الْقزْوِينِي سَمَاعا عَلَيْهِ، أَنبأَنَا خَالِي الإِمام أَبُو الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد الرَّافِعِيّ ح.
وَأَخْبرنِي مشافهة عَالِيا الْأَئِمَّة: أثير الدَّين أَبُو حَيَّان، وَعبد الْكَرِيم الْحلَبِي، وَبدر الدَّين مُحَمَّد بن أَحْمد الفارقي قَالُوا: أخبرنَا فَخر الدَّين أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن قَاضِي الْقُضَاة عماد الدَّين، الْمَعْرُوف ب ابْن السكرِي- الْأَوَّلَانِ سَمَاعا، وَالثَّالِث إجَازَة- قَالَ: أَنبأَنَا الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ- قَدَّس الله روحه، ونَوَّر ضريحه- قَالَ: قَرَأت عَلَى وَالِدي، قيل لَهُ: أخْبركُم عبد الله بن مُحَمَّد بن الْفضل، فأقَرَّ بِهِ، أخبرتنا فَاطِمَة بنت أبي عَلّي الدقاق، أخبرنَا عبد الْملك بن الْحسن، أَنا أَبُو عوَانَة- يَعْنِي الإِسفراييني- نَا الصغاني، نَا عبيد الله بن مُوسَى، أَنا طَلْحَة بن يَحْيَى، عَن أبي بردة، عَن أبي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إنَّ هَذِه الأُمَّةَ أمة مَرْحُومَة، لَا عَذَاب عَلَيْهَا، عَذَابُها فِي الدُّنْيَا بأيديها، فَإِذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَة، أُعطيَ كُلُّ رجلٍ مِنْهُم رجلا من أهلِ الأَدْيانِ، فَكَانَ فَكَاكَهُ من النَّار».
وَأخْبرنَا الشَّيْخ صَلَاح الدَّين الْمَذْكُور بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أخبرنَا شيخ الشُّيُوخ فريد الْعَصْر أَبُو المجامع إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْمُؤَيد بن حمويه الْجُوَيْنِيّ فِيمَا شافهني بِهِ بمنى- شَرَّفَها الله- ثمَّ كتب بِهِ إليَّ.
وحدَّثني بعض أَصْحَابنَا الْحفاظ، أَنا الإِمام عَزِيز الدَّين مُحَمَّد بن الإِمام الْعَلامَة إِمَام الدَّين أبي الْقَاسِم عبد الْكَرِيم بن مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بقزوين سنة إِحْدَى وَسبعين وسِتمِائَة، نَا وَالِدي من لَفظه سنة إِحْدَى عشرَة قَالَ: قَرَأت عَلَى وَالِدي، أَنا عبد الله بن مُحَمَّد، أَنا أَحْمد بن عَلّي الأديب، أَنا مُحَمَّد بن مُحَمَّد الزيَادي- يَعْنِي أَبَا طَاهِر بن محسن الْفَقِيه- أَنا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن، نَا أَحْمد بن يُوسُف، نَا عبد الرَّزَّاق، أَنا معمر، عَن همام بن مُنَبّه قَالَ: هَذَا مَا حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَن مُحَمَّد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لله تِسْعَة وتسْعُونَ اسْمًا- مائَة إلَّا وَاحِدًا- منْ أحْصاها دَخَل الجنَّة، إنَّه وتْر يُحبُّ الْوتر».
وَأخْبرنَا الشَّيْخ صَلَاح الدَّين الْمَذْكُور بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الأخلاطي، أَنا مُحَمَّد بن أبي سعيد، أَنا الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ إِذْنا، قَالَ: قَرَأت عَلَى أبي بكر عبد الله بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك، وَأَجَازَ لي الْأَئِمَّة: وَالِدي، وَأحمد بن إِسْمَاعِيل، وَمُحَمّد بن عبد الْعَزِيز قَالُوا: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الْملك بن مُحَمَّد، سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة، أَنا الإِمام أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَلّي الفيروزابادي سنة خمس وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة، أَنا أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد البرقاني، نَا أَبُو بكر الإِسماعيلي الإِمام- لفظا- أَخْبرنِي أَبُو يعْلى- يَعْنِي: أَحْمد بن الْمثنى- نَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي سَمِينَة، نَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعت أبي، نَا قَتَادَة، أَن أَبَا رَافع حَدثهُ، أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يَقُول:
سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «إنَّ الله تَعَالَى كَتبَ كِتَابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الْخلق: إِن رَحْمَتي سبقت غَضَبي، فَهُوَ عِنْده مَكْتُوب فَوق الْعَرْش».
وَرُوِيَ لنا من طَرِيق آخر أَعلَى من هَذَا، إلَّا أنَّ هَذِه الطَّرِيق حَسَنَة جدًّا، لتسلسل غَالب رُواتها بالأئمة الْكِبَار من أَصْحَابنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَقد ذكرت بِإِسْنَاد الإِمام الرَّافِعِيّ أَرْبَعِينَ حَدِيثا فِي مناقبه الَّتِي أفردتها بالتصنيف، وَهَذَا الْقدر كافٍ هُنَا؛ لِأَن الله وتر يحب الْوتر.
تفقَّه الإِمام الرَّافِعِيّ عَلَى وَالِده الْمَذْكُور، الإِمام أبي الْفضل، لَا أعلم أحدا تفقَّه عَلَيْهِ غَيره، وانتهت إِلَيْهِ رئاسة مَذْهَب الشَّافِعِي، ومعرفته بدقائقه فِي سَائِر الْبِلَاد.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: أَظن أَنِّي لم أرَ فِي بِلَاد الْعَجم مثله. قَالَ: وَكَانَ ذَا فنونٍ، حسن السِّيرَة، جميلَ الأثرِ.
وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عمر بن أبي بكر الصفار الإِسفراييني فِي أَرْبَعِينَ خرَّجَها: شَيخنَا، إِمَام الدَّين حَقًّا، وناصرُ السُّنَّةِ صدقا، أَبُو الْقَاسِم، عبد الْكَرِيم الرَّافِعِيّ، كَانَ أوحد عصره فِي الْعُلُوم الدِّينِيَّة، أُصُولهَا وفروعها، ومجتهد زَمَانه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، وفريد وقته فِي تَفْسِير الْقُرْآن والْمَذْهَب، وَكَانَ لَهُ مجْلِس للتفسير، وإسماع الحَدِيث بِجَامِع قزوين.
وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدَّين النواوي رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ إِمَامًا، بارعًا، مُتَبَرعا، متبحرًا فِي علم الْمَذْهَب وعلوم كَثِيرَة، وَكَانَ زاهدًا، ورعًا، متواضعًا.
قَالَ النَّوَوِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ من الصَّالِحين المتمكنين، وَكَانَت لَهُ كرامات ظَاهِرَة.
قلت: لَا شكّ فِي ذَلِك وَلَا ريب، فَمِنْهَا:
مَا أَخْبرنِي شَيخنَا بَقِيَّة الحفَّاظ صَلَاح الدَّين العلائي، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ قَالَ: حَكَى شَيخنَا قَاضِي الْقُضَاة أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر الدِّمَشْقِي، أَنه سمع من شَيخنَا الزَّاهِد الْكَبِير وليّ الله أبي الْحسن عَلّي الوَاسِطِيّ- قَالَ شَيخنَا: وَسمعتهَا أَيْضا من جمَاعَة آخَرين مُرْسلَة- أَن الإِمامَ أَبَا الْقَاسِم الرَّافِعِيّ بَات عِنْد بعض أَصْحَابه بكرم لَهُ خَارج بلد قزوين، وَكَانَت عَادَته أَنه يكْتب بِاللَّيْلِ فِيمَا يصنف فِيهِ، فلمَّا كَانَ اللَّيْل لم يُوجد هُنَاكَ دهن يُشعل بِهِ السراج، وَلَا أمكن الدُّخُول إِلَى الْبَلَد لأجل ذَلِك لَيْلًا، فَجَلَسَ الرَّافِعِيّ إِلَى جنب دالته، فأضاء لَهُ غُصْن مِنْهَا، فَكتب عَلَيْهِ إِلَى أَن فرغ.
قَالَ الشَّيْخ عَلّي الوَاسِطِيّ: وَهَذِه الْحِكَايَة مَشْهُورَة عندنَا بواسط، وَتلك الْبِلَاد.
وَمِنْهَا: مَا قرأته عَلَى شَيخنَا الْمَذْكُور قَالَ: حَكَى شيخ شُيُوخنَا العلَّامة تَاج الدَّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْفَزارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تاريخٍ علَّقه عَن القَاضِي شمس الدَّين بن خلكان، أَنه حدَّثه أَن الْملك جلال الدَّين خوارزم شاه، غزا الكُرْج بتِفْليس سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، وَقتل فيهم بِنَفسِهِ حَتَّى جمد الدَّم عَلَى يَده، فَلَمَّا مرَّ بقزوين، خرج إِلَيْهِ الإِمام أَبُو الْقَاسِم الرَّافِعِيّ، فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ أكْرمه إِكْرَاما عَظِيما، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ: سَمِعت أَنَّك قَاتَلتَ الْكفَّار حَتَّى جَمُدَ الدَّم عَلَى يدك، فَأحب أَن تخرج إليَّ يدك لأقبِّلها. فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان: بل أَنا أقبِّل يدك.
فقبَّل السُّلْطَان يَده، وتحادثا، ثمَّ خرج الشَّيْخ، وَركب دَابَّته، وَسَار قَلِيلا، فَعَثَرَتْ بِهِ الدَّابَّة، فَوَقع فتأَذَّت يَده الَّتِي قبَّلها السُّلْطَان، فَقَالَ الشَّيْخ: سُبْحَانَ الله! لما قَبَّل هَذَا الْملك يَدي حصل فِي نَفسِي شَيْء من العظمة، فعوقبت بِالْوَقْتِ بِهَذِهِ الْوَقْعَة.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَاهِر اللِّسَان فِي تصنيفه، كثير الْأَدَب، شَدِيد الِاحْتِرَاز فِي النقول، فَلَا يُطلق نقلا عَن أحد إلَّا إِذا وقف عَلَيْهِ من كَلَامه، فإنْ لم يقف عَلَيْهِ عبَّر بقوله: وَعَن فلَان كَذَا، شَدِيد الِاحْتِرَاز- أَيْضا- فِي مَرَاتِب التَّرْجِيح، وَلِهَذَا يُطلق تَارَة: عَلَى الْأَصَح، وَنَحْوه. وَتارَة يَقُول: الْأَصَح عِنْد الْأَكْثَرين. وَتارَة يَقُول: الْأَصَح عَلَى مَا قَالَه فلَان وَفُلَان. أَو: كَلَام الْأَكْثَرين يمِيل إِلَى كَذَا. وَمرَّة يذكر مَا يشْعر بِأَنَّهُ من جِهَته، كَقَوْلِه: الْأَحْسَن، والأعدل، وَالْأَشْبَه، والأمثل، وَالْأَقْرَب، والأنسب، وَيَنْبَغِي كَذَا، وَيُشبه كَذَا، وَنَحْو ذَلِك.
صّنَّف- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وَأعَاد علينا من بركاته، وبركات سلفه الطَّاهِر- كُتبًا أضحت للدّين والإِسلام أَنْجُمًا وشُهبًا، مِنْهَا: الْكتاب الَّذِي خار الله لنا-
وَله الْحَمد والمنَّة- بالْكلَام عَلَى أَحَادِيثه، وآثاره- يَسَّر الله إكماله، ونفع بِهِ- وَهُوَ:
الْفَتْح الْعَزِيز فِي شرح الْوَجِيز، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: لم يشْرَح الْوَجِيز بِمثلِهِ.
قلت: بل لم يصنف فِي الْمَذْهَب مثله، قَرَأت عَلَى شَيخنَا صَلَاح الدَّين- بالقدس الشريف- قَالَ: سَمِعت شَيخنَا الْعَلامَة الرباني أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْفَزارِيّ- غير مرّة- يَقُول: مَا يعرف قدر الشَّرْح للرافعي إِلَّا بِأَن يجمع الْفَقِيه المتمكن فِي الْمَذْهَب الْكتب الَّتِي كَانَ الإِمام الرَّافِعِيّ يستمد مِنْهَا، ويصنف شرحًا للوجيز، من غير أَن يكون كَلَام الرَّافِعِيّ عِنْده، فَحِينَئِذٍ يعرف كل أحد قصوره عمَّا وصل إِلَيْهِ الإِمام الرَّافِعِيّ. هَذَا أَو مَعْنَاهُ.
وَمِنْهَا: الشَّرْح الصَّغِير للوجيز أَيْضا، قَالَ الإِسفراييني- الْمُتَقَدّم ذكره-: وَقع موقعًا عَظِيما عِنْد الْخَاصَّة، والعامة.
قَرَأت عَلَى شَيخنَا صَلَاح الدَّين قَالَ: سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقزْوِينِي- تغمده الله بعفوه- يَحْكِي عَن مَشَايِخ بَلَده، أَن سَبَب تصنيف الإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ الشَّرْح الصَّغِير أَن بعض الْفُقَهَاء قصد أَن يختصر الشَّرْح الْكَبِير، فَبلغ ذَلِك الإِمام الرَّافِعِيّ، فخاف أَن يُفْسده عَلَيْهِ بالتغيير، لقُصُور عبارَة ذَلِك الرجل، فَقَالَ لَهُ الإِمام أَبُو الْقَاسِم: أَنا أَخْتَصِرهُ لَك، وَلَكِن لَا أقدر عَلَى الْوَرق. وَكَانَ ذَلِك الرجل- أَيْضا- فَقِيرا، فَلم يُمكنهُ إلَّا أنْ أحضر للإِمام أبي الْقَاسِم من الْوَرق الْمَكْتُوب الَّذِي يُبَاع شَيْئا كثيرا، فَكتب الإِمام الشَّرْح الصَّغِير فِي ظُهُوره، حَتَّى أَكْمَلَه، ثمَّ نُقِلَ من تِلْكَ الظُّهُور.
قلت: وَهَذِه الْحِكَايَة، مِمَّا يدل عَلَى زهد الإِمام الرَّافِعِيّ، وتَقلُّلِهِ من الدُّنْيَا.
وَمِنْهَا: المُحَرَّر وَهُوَ كاسمه، وَمَا أَكثر نَفعه، مَعَ صغر حجمه.
وَمِنْهَا: شرح مُسْند الإِمام الشَّافِعِي، وَهُوَ كتاب نَفِيس، قَالَ الإِسفراييني الْمُتَقَدّم ذكره: أَسْمَعَه مُصَنفه سنة تسع عشرَة وسِتمِائَة.
وَمِنْهَا: الأمالي الشارحة لمفردات الْفَاتِحَة، الَّتِي تقدم التَّنْبِيه عَلَى عظم شَأْنهَا فِي الْخطْبَة، ابْتَدَأَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إملائها يَوْم الثُّلَاثَاء، ثامن عشْرين رَجَب، سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة، وختمها يَوْم الْجُمُعَة، رَابِع عشْرين ربيع الأول، سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة.
وَمِنْهَا: التذنيب عَلَى الشرحين، لما يتَعَلَّق بالوجيز.
وبهذه الْكتب الثَّلَاثَة يُعْرفُ محلُّ الإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ من معرفَة هَذَا الْعلم- أَعنِي علم هَذَا الحَدِيث، وَالْكَلَام عَلَيْهِ، عَلَى اصْطِلَاح أَهله فِي عزوه وَرِجَاله، وفوائده- الْمعرفَة التَّامَّة.
وخرَّج لنَفسِهِ أَرْبَعِينَ حَدِيثا، كَمَا تقدّمت الإِشارة إِلَيْهَا، سَاق فِيهَا الحَدِيث المسلسل بالأولية من عشرَة طرق، يذكر مَعَ كل طَرِيق مِنْهَا أَرْبَعَة أَحَادِيث فِيمَا يتَعَلَّق بِالرَّحْمَةِ.
وَمِنْهَا: الإيِجاز فِي أخطار الْحجاز، صنَّفه فِي سَفْرَتِه إِلَى الْحَج، أَفَادَهُ بعض الْعَجم من شُيُوخ الْعَصْر.
وَله رَحِمَهُ اللَّهُ، مَعَ ذَلِك شعر حسن، فَمن ذَلِك مَا ذكره فِي أَمَالِيهِ:
سَمِّني مَا شئتَ وسِم جبهتي ** بِاسْمِك ثمَّ اسْمُ بأسمائي

فَسَمِّني عَبدك أفخرْ بهِ ** وَيَسْتَوِي عَرْشِي عَلَى الماءِ

وفيهَا لَهُ:
إنْ كنتَ فِي اليُسْرِ فاحمدْ من حَبَاكَ ** بِهِ فَلَيْسَ حَقًّا قَضى لكنَّه الجودُ

أَو كنت فِي العُسْرِ فاحمده كَذَلِك إذْ ** مَا فوقَ ذلكَ مصروفٌ ومردودُ

وَكَيف مَا دارتِ الأَّيام مقبلةً ** وَغير مقبلةٍ فَالْحَمْد محمودُ

وفيهَا لَهُ:
إِلَى رضى الربِّ نَسُوق الرِّضَا ** بِاللَّه ربًّا فارض فِيمَا قَضَى

وَلَا تَكُنْ عَنْ شَأْنِهِ غَافِلًا ** فالوقتُ سيفٌ صَارِمٌ ينتضى

وفيهَا لَهُ:
العَالمُون ضَعِيفُهُم وقَوِيُّهُم ** لجلالِ عزته سُجُودٌ رُكَّعُ

لَو كُلِّفُوا أَنْ يَعْبُدُوه عمرَهمُ ** حقَّ العبَادةِ لَحْظَة لَتَكعكعوا

وفيهَا لَهُ:
أَقِيْمَا عَلَى بابِ الرحيمِ أَقِيمَا ** وَلَا تَنِيَا فِي ذكرِه فَتَهِيما

وللنَّفَحَاتِ الطَّيِّبَات تَعَرَّضَا ** لعلكما تستنشقانِ نسيما

هُوَ الرَّبُ من يَقْرَعْ عَلَى الصِّدْقِ بَابَهُ ** يَجدْه رءوفًا بالعبادِ رحِيما

وفيهَا لَهُ:
تَنَبَّهْ فَحَقٌّ أَن يطولَ بحسرةٍ ** تلهفُ مَنْ يَسْتَغْرقُ العمرَ نَوْمُهُ

لَقدْ نِمْتَ فِي ليْلِ الشَّبيبةِ غافِلًا ** فَهُبَّ لصبحِ الشَّيبِ إذْ جَاءَ يَوْمُهُ

وفيهَا لَهُ:
سَوَادُ الشبابِ كليلٍ مَضَى ** وَقد نِمْتَ فِيهِ لَقى غَافِلًا

وصُبْحُ المَشِيبِ بَدَا فَانْتَبِه ** فَعَمَّا قليلٍ تُرَى آِفلًا

وفيهَا لَهُ:
منْ يَسْتَعِنْ بِاللَّه سُبْحانه ** ويطلبُ العوذة فِيمَا يُعينْ

يُعِنْهُ بالفضِل عَلَى مَا بهِ ** يَقَرُّ عينا ويَفِرُّ اللَّعِينْ

فحسبنا الله لِمَا نَابَنَا ** إيَّاهُ نَرْجُو وَبِهِ نستعينْ

وفيهَا لَهُ:
لَيْسَ للدنيا استقامه ** ولمن فيها إقامه

هِيَ إلمامةُ طَيْفٍ ** وانتشاء من مُدَامهْ

هِيَ مثلُ البرقِ يَبْدُو ** من تجاويفِ غَمَامَهْ

نائلٌ مَا أَنْت فِيهِ ** من هَوَانٍ وكرامهْ

حاصلُ المأمولِ فِيهَا ** تَبِعَاتٌ وغرامهْ

تعبٌ فِي الحَالِ صَعْبٌ ** ثُمَّ فِي العُقْبَى ندامهْ

جافِ عَنْهَا الجْنبَ صَفْحًا ** تنجْ مِنْهَا بِسَلاَمهْ

وفيهَا لَهُ:
أَُفْدي الَّذين سَقَونيِ كَأْس حُبّهمُ ** وإِنْ جَفَوْنِي وإنْ جَارُوا وإنْ غَدَرُوا

أَلَيْسَ قد جعلوني أهلَ وُدهمُ ** فَفِي فؤاديَ مِنْهُ الوِرْدُ والصَّدَرُ

أَلَيْسَ لم يسلبوني مَا أَلُذْ بِهِ ** ذكرا وحبًّا وإضمارًا وَقد قَدَرُوا

وفيهَا لَهُ:
صافيتكَ لَا تشب بمطلٍ وبليٍّ ** ميعادك واحتكم بِمَا شِئْتَ علَيَّ

أَتْمِمْ نِعَمًا أَنْتَ تَطَوَّلْتَ بهَا ** مِنْكَ اليَدُ والقصور مِنِّي وإليَّ

وفيهَا لَهُ:
تَيَمَّمتُ بَابَكَ لَا غَيره ** فَمَا الخيرُ عِنْدِي سُوَى خَيْرِكم

لَئِن لم أُصِبْ مِنْكمُ وابِلًا ** فَما أرتجي الطلَّ مِنْ غَيْرِكم

وفيهَا لَهُ:
نَفسِي فدًا لَهُم أَحبُّوا أَمْ تَوَلَّوا ** تَحَوَّلُوا عَنْ حَالهم أَو ثَبَتُوا فَخَوَّلُوا

إنْ حَرَمُوا فطالما بفضلهم تَطَوَّلُوا ** فَتَحْتُ عَيْني بهم فَمَا عَنْهُم محول

إعراضهم إنْ أَعْرَضُوا وَشدَّدوا وهَوَّلوا ** وعَرضوني للنوى ومَا عليَّ طَوَّلُوا

لَيْسَ بثانٍ عَنْهُم إنَّ الحبيب الأولُ ** عَلَيْهِم فِي كُلِّ مَا أقصده المُعَوَّلُ

وفيهَا لَهُ:
قُولوا لَهُم ثمَّ قُولوا ** مَا عنهمُ لي عُدُولُ

أَحمَّلُوني أمورًا ** تَنْهَدّ مِنْهَا العقُولُ

أَو توَلَّونِي بِخَيْرٍ ** يَطولُ فِيهِ الفَضُولُ

لَا أَجْعَلُ القَلبَ رَهْنًا ** فالرهنُ مِمَّا يَزُولُ

وَقْفٌ عليهمُ فؤَادِي ** وَالْوَقْف مَا لَا يحولُ

وفيهَا لَهُ:
قد ذَلَّ مَنْ مِنْهُ مَلَّا ** وبعدَ ذَلِك ضَلَّا

وفاز مَن فِيهِ يسْعَى ** وخَابَ من عَنهُ وَلَّى

مَن اسْتَقَلَّ سوَاهُ ** فَفِي هُدَاه اسْتَقَلَّا

والِمُعْرِضُ المُتَواني ** نُوَلِّه مَا تَولَّى

وإنْ خَضَعْتَ تراهُ ** بفضله يَتَجَلَّى

يَا رب عَبْدُك يَرْجُو ** من ظِلِّ فَضْلِكَ ظِلَّا

وَأَنت ربٌّ رَحِيمٌ ** تُسْدِي الجميلَ فَهَلَّا

ثمَّ خَتَم هَذِه الأمالي بِأَن قَالَ:
عبدُ الْكَرِيم المُرْتَجِي رَحْمَة ** تَكْنُفُهُ مِنْ كل أرجائهِ

أَمْلَى ثَلَاثِينَ حَدِيثا عَلَى ** مَا وَفَّق اللهُ بنعمائهِ

لَيْسَ يُزَكِّيها ولكنَّه يقولُ ** قولَ الحائرِ التائهِ

فَازَ أَبُو الْقَاسِم يَا رب لَو ** قَبِلتَ حَرْفَيْنِ من إملاَئِه

وللإِمام الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَوْلَاد: ولد ذكر، اسْمه: مُحَمَّد، ولقبه: عَزِيز الدَّين- كَمَا سُقْنَا حَدِيثه عَن وَالِده فِيمَا تقدم من الْأَحَادِيث- وَبنت، ذكر أَبُو سعد النسوي المنشي فِي تَارِيخ خوارزم شاه: أَن الإِمام أَبَا الْقَاسِم الرَّافِعِيّ كَانَت لَهُ بنت، تزَوجهَا رجل من مَشَايِخ قزوين وأولدها أَوْلَادًا كَثِيرَة.
وقرأت عَلَى الشَّيْخ صَلَاح الدَّين- أبقاه الله- قَالَ: رَأَيْت بِدِمَشْق سنة أَرْبَعِينَ وَسَبْعمائة امْرَأَة حضرت عِنْد قَاضِي الْقُضَاة تَقِيّ الدَّين السُّبْكِيّ، عجمية، فصيحة اللِّسَان، ذَكَرتْ أَنَّها من نسل الإِمام الرَّافِعِيّ، وَكَانَت تحفظ عقيدته الَّتِي صنّفها، فَقَرَأت مِنْهَا قِطْعَة، وَهِي عقيدة بديعة عَلَى طَريقَة أهل السنَّة، بِعِبَارَة فصيحة عَلَى عَادَته- رَحْمَة الله عَلَيْهِ.
توفّي- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه، وَجعل الْجنَّة مَأْوَاهُ- فِي حُدُود سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة، ودُفن ب قزوين. قَالَه أَبُو عبد الله الصَفَّار، الإِسفراييني، وَكَذَا أَرَّخَهُ القَاضِي شمس الدَّين بن خلكان، وَأفَاد بِأَنَّهَا كَانَت فِي ذِي الْقعدَة.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح: بلغنَا بِدِمَشْق وَفَاته سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة، وَكَانَت وَفَاته فِي أوائلها، أَو فِي أَوَاخِر السّنة الَّتِي قبلهَا بقزوين.
هَذَا مَا يتَعَلَّق بِحَال الإِمام أبي الْقَاسِم الرَّافِعِيّ.
وَأما وَالِده الَّذِي وَعَدْنا بِذكرِهِ: فَقَالَ ابْن نقطة الْحَافِظ فِي ذيله عَلَى كتاب الْأَمِير ابْن مَاكُولَا: أَبُو الْفضل، مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن الْفضل الرَّافِعِيّ الْقزْوِينِي يُقَال لَهُ: بابويه.
سمع بِبَلَدِهِ من أبي عَلّي الْحسن بن أَحْمد الهمذاني، قدم عَلَيْهِم، وَمن ملكداذ بن عَلّي بن أبي عَمْرو، وبِبَغْدَاد من: أبي مَنْصُور بن خيرون، وَأبي الْفضل الأرموي، وَأبي عبد الله بن الطرائفي، وَسعد الْخَيْر الْأنْصَارِيّ. وبنيسابور من: أبي الأسعد الْقشيرِي، وَعبد الْخَالِق بن زَاهِر الشحامي فِي آخَرين.
وَقَالَ وَلَده- أَعنِي الإِمام الرَّافِعِيّ- فِي أَمَالِيهِ: وَالِدي أَبُو الْفضل، مِمَّن خُصَّ بعفة الذيل، وحُسن السِّيرَة، والجدِّ فِي الْعلم وَالْعِبَادَة، وذلاقة اللِّسَان، وَقُوَّة الْجنان، والصلابةِ فِي الدَّين، والمهابةِ عِنْد النَّاس، والبراعة فِي الْعلم: حفظا، وضبطًا، ثمَّ: إتقانًا، وبيانًا، وفهمًا ودرايةً، ثمَّ: أَدَاء، وَرِوَايَة.
سمع الحَدِيث، وتفقَّه ب قزوين فِي صِباه، ثمَّ سَافر إِلَى الرّيّ، فَسمع، وتفقَّه، ثمَّ ارتحل إِلَى بَغْدَاد، فَسمع، وتفقَّه، وحجَّ مِنْهَا، ثمَّ انْتقل إِلَى نيسابور، فحصَّل عَلَى الإِمام مُحَمَّد بن يَحْيَى، وَسمع الحَدِيث الْكثير.
وَكَانَ مشايخه يوقرونه، لحسن سيره، وشمائله، ووفور فَضله، وفضائله.
ولَمَّا عَاد إِلَى قزوين أَقبلت عَلَيْهِ المتفقِّهةُ، فدرَّس، وأَفاد، وذاكَر، وذَكَّر، وفَسَّرَ، وَرَوَى، وأَمْلى، وصَنَّف: فِي التَّفْسِير، والْحَدِيث، وَالْفِقْه، وانتفع بِهِ الْخَواص والعوام.
ثمَّ اسْتَأْثر الله- تَعَالَى- بِهِ فِي شهر رَمَضَان، سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة. قَالَ: وَلَعَلَّ الله يوفق لما فِي عزمي من جمع مُخْتَصر فِي مناقبه، أُسَمِّيهِ ب القَوْل الْفَصْل فِي فضلِ أبي الْفضل. اهـ.
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْخَامِس من هَذِه الأمالي: وَالِدي- رَحِمَهُ اللَّهُ- كَانَ جيد الْحِفْظ، سمعته صَبِيحَة بعض الْأَيَّام يَقُول: سَهِرْتُ البارحة فأجلت الفكرَ فِيمَا أحفظه من الأبيات المفردة، والمقطعات فبلغت آلافًا. ذكر عددا كثيرا.
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْعَاشِر مِنْهَا: سَمِعت عبد الرَّحِيم بن الْحُسَيْن المؤذِّن- وَكَانَ رجلا صَالحا يؤذِّن فِي مَسْجده- يَحْكِي أَن وَالِدي- رَحِمَهُ اللَّهُ- خرج فِي لَيْلَة مظْلمَة لصلاةِ العشاءِ، قَالَ: وَأَنا عَلَى بَاب الْمَسْجِد أنتظره، فحسبت أَن فِي يَده سِراجًا، وتعجَّبْتُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لم يكن من عَادَته استصحابُ السراج، فمَّا بلغ الْمَسْجِد لم أجد السراجَ، ودهشت وَذكرت لَهُ ذَلِكَ من الْغَد فَلم يُعجبهُ وُقُوفِي عَلَى الْحَال، وَقَالَ: أقبل عَلَى شَأْنك.
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْعَاشِر مِنْهَا: كَتَبَ سعد بن الْحسن الْكرْمَانِي لوالدي، رحمهمَا الله- وَكَانَ سعد من أهل الْعلم والْفضل، والبيوتات الشَّرِيفَة-:
يَا أَبَا الْفضل قَد تَأَخَّرْتَ عنَّا ** فَأَسَأْنا بِحسن عَهْدك ظَنَّا

كمْ تَمَنَّتْ نَفْسي صَدِيقًا صَدُوقًا ** فَإِذا أنْتَ ذَلِكَ المُتَمَنَّى

فبِغُصنِ الشَّباب لما تَثَنَّى ** وبِعَهْدِ الصِّبَا وإنْ بَانَ عَنَّا

كُنْ جوابي إِذا قَرأْتَ كِتابي ** لَا تَقُلْ للرسولِ كانَ وكُنَّا

فَبلِّغْتُ أَنه كَانَ جَوَابه. أ.هـ.
وَقَالَ فِي الْمجْلس الْخَامِس عشر: كتب إِلَيّ وَالِدي أَبُو سُلَيْمَان الزبيري حِين عزم عَلَى السّفر للتفقه:
أَبَا الْفضل هَجْرُكَ لَا يُحْمَلُ ** وَلَسْتَ ملومًا بِمَا تَفْعَلُ

وإنَّكَ مِنْ حَسَناتِ الزَّمَانِ ** وقدمًا علينا بهَا يبخلُ

وَأما والدته الَّتِي وعدنا بذكرها أَيْضا، فَقَالَ فِي أَمَالِيهِ- أَيْضا-: والدتي صَفِيَّة بنت الإِمام أسعد الركاني،- رحمهمَا الله- كَانَت تروي الحَدِيث عَن إجَازَة جمَاعَة من مَشَايِخ أَصْبَهَان، وبَغْدَاد، ونيسابور، عَنِيَ بتحصيل أَكْثَرهَا: خالها أَحْمد بن إِسْمَاعِيل.
قَالَ: وَلَا أعرف امْرَأَة فِي الْبَلَد كريمةَ الأطرافِ فِي الْعلم مثلهَا، فأبوها كَانَ حَافِظًا للْمَذْهَب، والأقوالِ، وَالْوُجُوه فِيهِ، المستقرب مِنْهَا والمستبعد، ماهرًا فِي الْفَتْوَى، مرجوعًا إِلَيْهِ.
وَأمّهَا: زُلَيْخَا بنت القَاضِي إِسْمَاعِيل بن يُوسُف، كَانَت فقيهةً يُرَاجِعهَا النِّسَاء، فتفتي لَهُنَّ لفظا وخطًّا، سيّما فِيمَا ينوبهن، ويستحين مِنْهُ، كالعدة وَالْحيض.
وأخواها: من معتبري الْأَئِمَّة الْمَشْهُورين فِي الْبَلَد، دَرَجَ أكبرهما، وأُنسئ فِي أجل الآخر.
وَزوجهَا الإِمَام وَالِدي، قد أَشرت إِلَى جملٍ من أَحْوَاله فِيمَا تقدم.
وجدّها: القَاضِي إِسْمَاعِيل بن يُوسُف، من أهل العِلْم والحَدِيث، والجدّ فِي الْعِبَادَة، وَكَانَ قد تفقَّه عَلَى القَاضِي، الشَّهِيد: أبي المحاسن الرَّوْيَانِيّ، وَسمع مِنْهُ الحَدِيث.
وخالها: الإِمَام أَحْمد بن إِسْمَاعِيل، مَشْهُور فِي الْآفَاق.
قَالَ فِي أثْنَاء أَمَالِيهِ- بعد أَن رَوَى عَنهُ حَدِيثا-: هُوَ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الطَّالقَانِي ثمَّ الْقزْوِينِي، أَبُو الْخَيْر، إِمَام كثير الْخَيْر، موفر الْحَظ من عُلُوم الشَّرْع: حفظا، وجمعًا، ونشرًا، بالتعليم، والتذكير، والتصنيف. وَكَانَ لَا يزَال لِسَانه رطبا من ذكر الله تَعَالَى، وَمن تِلَاوَة الْقُرْآن، وَرُبمَا قُرِئَ عَلَيْهِ الحَدِيث وَهُوَ يُصَلِّي ويصغي إِلَى الْقَارئ، وينبهه إِذا زَلَّ، وَاجْتمعَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ الْقبُول التَّام، عِنْد الْخَواص والعوام، والصيت الْمُنْتَشِر، والجاه والرفعة.
وتولَّى تدريس النظامية بِبَغْدَاد مُدَّة، مُحْتَرمًا فِي حَرِيم الْخلَافَة، مرجوعًا إليْهِ، ثمَّ آثَر الْعود إِلَى الوطن، واغتنم النَّاس رُجُوعه إِلَيْهِم، واستفادوا من علمه، وتَبَرَّكُوا بأيامه.
وَسمع الْكثير من الفراوي، وفهرست مسموعاته متداول، وَكَانَ يعْقد الْمجْلس للعامة فِي الْأُسْبُوع ثَلَاث مَرَّات، إِحْدَاهَا: صَبِيحَة يَوْم الْجُمُعَة، فَتكلم عَلَى عَادَته يَوْم الْجُمُعَة، الثَّانِي عشر من الْمحرم سنة تسعين وَخَمْسمِائة فِي قَول الله تَعَالَى: {فَإِن توَلّوا فَقل حسبي الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ}.
وَذكر أَنَّهَا من أَوَاخِر مَا نزل من الْقُرْآن، وعَدَّدَ الْآيَات الْمنزلَة آخرا، مِنْهَا: {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ} , وَمِنْهَا: سُورَة النَّصْر. وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله}.
وَذكر أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا عَاشَ بعد نزُول هَذِه الْآيَة إلَّا سَبْعَة أَيَّام، ولمَّا نَزَلَ من الْمِنْبَر حُمَّ، وانتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى فِي يَوْم الْجُمُعَة الْأُخْرَى، وَلم يَعِشْ بعد ذَلِكَ الْمجْلس إلَّا سَبْعَة أَيَّام، وَهَذَا من عَجِيب الاتفاقات.
وَكَأَنَّهُ أُعْلِمَ بِالْحَال، وبِأَنَّهُ حانَ وَقت الارتحال، ودُفن يَوْم السبت، وَلَقَد خرجت من الدَّار بكرةَ فِي ذَلِكَ اليومِ عَلَى قصد التَّعْزِيَة، وَأَنا فِي شَأْنه متفكر، وَمِمَّا أَصَابَهُ منكسر، إِذْ وَقع فِي خلدي من غير نِيَّة، وفكر وروية:
لوفاةِ أحمدِهَا بن إسماعيلها بَكَت العلومُ بويلها وعويلها كَأَن أحدا يُكَلِّمُنِي بذلك.
وَكَانَت وِلَادَته سنة: اثْنَتَيْ عشرَة وَخَمْسمِائة، وَهُوَ مَعَ كَونه خَال والدتي، أَبوهَا من الرَّضَاع أَيْضا.
قَالَ: وَابْنهَا، المملي لهَذِهِ الأمالي- يَعْنِي الرَّافِعِيّ نَفسه-: لَا يخرج من زمرة أهل الْعلم، ويحشر فيهم- إِن شَاءَ الله تَعَالَى- وَكَذَلِكَ سَائِر بنيها.
قَالَ: ثمَّ هِيَ- يَعْنِي والدته- فِي نَفسهَا متديِّنة خائفة، وَبِمَا لابد مِنْهُ للفروض عارفة، قارئة لكتاب الله تَعَالَى، كَثِيرَة الْخَيْر، رقيقَة الْقلب، سليمَة الْجَانِب، تحمل الكَلَّ، وترغب فِي الْمَعْرُوف، وتُحْسِنُ إِلَى الْيَتَامَى والأيامى، تلِي خيرا، وتولي جميلًا مَا استطاعت إِلَيْهِمَا سَبِيلا.
وَكَانَت قد ابْتليت بعدة بَنَات، أنفقت وَاسِطَة الْعُمر عليهنَّ، حتَّى استكملن من أدبهنَّ، مَضَيْن لسبيلهنَّ، فَتَرَكْنَها ملهوفة ثَكْلَى بهنَّ، وَللَّه مَا أَخذ، وَله مَا أعْطى، وَلَا راد لما حكم بِهِ وَقَضَى.
ثمَّ ذكر أَحَادِيث وشعرًا تَسْلِيَة لوالدته- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعنها.
وللإِمام الرَّافِعِيّ أَخ، اسْمه: مُحَمَّد، تفقَّه عَلَى أبي الْقَاسِم بن فضلان. وَسمع الحَدِيث من أَبِيه، وَأَجَازَ لَهُ: ابْن البَطِّي. ورحل إِلَى أَصْبَهَان والرّيّ، وأذربيجان، والْعرَاق. وَسمع الحَدِيث من: نصر الله القَزَّاز، وَابْن الْجَوْزِيّ.
واستوطن بَغْدَاد، وولِّي مشارفة أوقاف النظامية.
وَكَانَ فِي ديانَة، وَأَمَانَة، وتواضُع، وتودُّد، وحُسن خلق. كتب الْكثير- مَعَ ضعف خطه- من التَّفْسِير، والْحَدِيث، وَالْفِقْه. ومعرفته فِي الحَدِيث تَامَّة.
قَالَ ابْن النجار: وَكَانَ يذاكرني بأَشْيَاء، وَله فهم حسن، وَمَعْرِفَة. مَاتَ فِي ثامن عشْرين جُمَادَى الأولَى، من سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة، وَقد قَارب السّبْعين.
هَذَا آخر مَا أردْت ذكره من هَذِه الْفُصُول، وَهِي مهمةٌ، نَافِعةٌ، سِيَّما مَنَاقِب الإِمامِ الرَّافِعِيّ ووالده، ووالدته، فإنَّ بذلك يعرف قدرهم، وفضلهم، وبسطناها هُنَا بسطًا حسنا، لَا يُوجد كَذَلِك فِي كتاب.
وإذْ قد فَرَغْنَا من هَذِه الْفُصُول، فلنشرع الْآن فِي الْغَرَض الأهم الْمَقْصُود، متوكلين عَلَى الصَّمد المعبود، أسألُ الله الْكَرِيم إِتْمَامه مصونًا عَاجلا، عَلَى أحسن الْوُجُوه، وأبركها، وأعمها، وأنفعها، وأدومها، بِمُحَمد وَآله.